responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 110
يُفَاوِضُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ كَأَنَّ الْمُتَنَاجِيَيْنِ مَنَعَا إِدْخَالَ غَيْرِهِمَا مَعَهُمَا وَتَبَاعَدَا مِنْ غَيْرِهِمَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: 52] وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يُوسُفَ: 80] وقوله: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ... وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمُجَادَلَةِ: 9] وَقَوْلُهُ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [الْمُجَادَلَةِ: 12] .
إِذَا عَرَفْتَ الْفَرْقَ بَيْنَ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ فَكَيْفَ يَتَجَرَّءُونَ عَلَى النِّفَاقِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الِاسْتِسْرَارُ وَالتَّنَاجِي فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ كَمَا يَعْلَمُ الظَّاهِرَ، وَأَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ كَمَا يُعَاقِبُ عَلَى الظَّاهِرِ؟
ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَالْعَلَّامُ مُبَالَغَةٌ فِي الْعَالِمِ، وَالْغَيْبُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الْخَلْقِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَاتُهُ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَجِبُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِمَا فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْإِخْفَاءُ مِنْهُ؟ وَنَظِيرُ لفظ علام الغيوب هاهنا قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: 116] فَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَلَّامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُشْعِرٌ بِنَوْعِ تَكَلُّفٍ فِيهَا يعلم والتكلف في حق الله محال.

[سورة التوبة (9) : آية 79]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ لَمْزُهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالصَّدَقَاتِ طَوْعًا وَطَبْعًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَحَثَّ عَلَى أَنْ/ يَجْمَعُوا الصَّدَقَاتِ، فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: كَانَ لِي ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَمْسَكْتُ لِنَفْسِي وَعِيَالِي أَرْبَعَةً وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ أَقْرَضْتُهَا رَبِّي، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ.
قِيلَ: قَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَ الرَّسُولِ فيه حتى صالحت امرأته ناضر عَنْ رُبُعِ الثُّمُنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَجَاءَ عُمَرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَجَاءَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ بِسَبْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، وَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَقَالَ: آجَرْتُ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ نَفْسِي مِنْ رَجُلٍ لِإِرْسَالِ الْمَاءِ إِلَى نَخِيلِهِ، فَأَخَذْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَأَمْسَكْتُ أَحَدَهُمَا لِعِيَالِي وَأَقْرَضْتُ الْآخَرَ رَبِّي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهِ فِي الصَّدَقَاتِ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى وَجْهِ الطَّعْنِ مَا جَاءُوا بِصَدَقَاتِهِمْ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً. وَأَمَّا أَبُو عَقِيلٍ فَإِنَّمَا جَاءَ بِصَاعِهِ لِيُذْكَرَ مَعَ سَائِرِ الْأَكَابِرِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَاعِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ اللَّمْزِ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ وَالْمُطَّوِّعُونَ الْمُتَطَوِّعُونَ، وَالتَّطَوُّعُ التَّنَفُّلُ، وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَسَبَبُ إِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ قُرْبُ الْمَخْرَجِ. قَالَ اللَّيْثُ:
الْجُهْدُ شَيْءٌ قَلِيلٌ يَعِيشُ بِهِ الْمُقِلُّ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا جُهْدَهُمْ وَجُهْدُهُمْ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْفَتْحُ لِغَيْرِهِمْ، وَحَكَى ابْنُ السِّكِّيتِ عَنْهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ الْجُهْدُ الطَّاقَةُ. تَقُولُ هَذَا جُهْدِي أَيْ طَاقَتِي.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْمُطَّوِّعِينَ فِي الصَّدَقَاتِ، أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءُ الَّذِينَ أَتَوْا بِالصَّدَقَاتِ الْكَثِيرَةِ وَبِقَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أَبُو عَقِيلٍ حَيْثُ جَاءَ بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخِرَ مِنْهُمْ.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 110
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست