responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 385
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. ثَبَتَ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَمُطَالَبَةُ الْخَلْقِ بِالتَّكَالِيفِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ وَلَا مَوْلًى لَهُمْ سِوَاهُ، / وَأَيْضًا إِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْكُلِّ بِأَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَيْضًا إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ سَبَبٌ تَامٌّ، فِي أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ، أَمَّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْمَوْلَى مُطَالَبَةُ عَبْدِهِ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْمُنْعِمِ مُطَالَبَةُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الثَّالِثِ فَلِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ التَّامِّ إِلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه إِرْسَالُ الرُّسُلِ، وَيَجُوزُ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَخُصَّهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ لِلْعَالِمِ إِلَهًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَعَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ هَذِهِ الْأُصُولَ الْمَذْكُورَةَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَوْلَهُ:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ الْقَوْلَ بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَمْرٌ جَائِزٌ مُمْكِنٌ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه لِأَنَّ مَنْ حَاوَلَ إِثْبَاتَ مَطْلُوبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ حُصُولَهُ ثَانِيًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ لِأَنَّا بَيِّنَا أَنَّ الْإِيمَانَ باللَّه أَصْلٌ، وَالْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ. فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا حَقًّا، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَى نَوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي ذَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ، وَأَجَلُّهَا وَأَشْرَفُهَا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أُسْتَاذٍ، وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُجَالَسَةُ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَتْ مَكَّةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمَا غَابَ رَسُولُ اللَّه عَنْ مَكَّةَ غَيْبَةً طَوِيلَةً يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي مُدَّةِ تِلْكَ الْغَيْبَةِ تَعَلَّمَ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ وَأَظْهَرَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، فَكَانَ ظُهُورُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَلْقَ أُسْتَاذًا وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ مَخَارِجِ ذَاتِهِ مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَنُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. وَهِيَ تُسَمَّى بِكَلِمَاتِ اللَّه تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ أمراً غربياً مُخَالِفًا لِلْمُعْتَادِ، لَا جَرَمَ سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى كَلِمَةً. فَكَذَلِكَ الْمُعْجِزَاتُ لَمَّا كَانَتْ أُمُورًا غَرِيبَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ لَمْ يَبْعُدْ تَسْمِيَتُهَا بِكَلِمَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أَيْ يُؤْمِنُ باللَّه وَبِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّه عَلَيْهِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ الطَّرِيقَ الَّذِي به

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 385
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست