responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 200
وَقَعَتْ قَطْرَةُ النُّطْفَةِ مِنْ صُلْبِ الْأَبِ إِلَى رَحِمِ الْأُمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ أَنَّهَا صَارَتْ عَلَقَةً أَوَّلًا، ثُمَّ مُضْغَةً ثَانِيًا، ثُمَّ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَعْضَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ مِثْلَ الْعِظَامِ وَالْغَضَارِيفِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْأَوْتَارِ وَالْأَوْرِدَةِ وَالشَّرَايِينِ، ثُمَّ اتَّصَلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ، ثُمَّ حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَى، فَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ فِي الْعَيْنِ، وَالسَّامِعَةُ فِي الْأُذُنِ، وَالنَّاطِقَةُ فِي اللِّسَانِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وَبَصَّرَ بِشَحْمٍ، وَأَنْطَقَ بِلَحْمٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ التَّشْرِيحِ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مَشْهُورٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَرْبِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا وَصَلَتْ نَدَاوَةُ الْأَرْضِ إِلَيْهَا انْتَفَخَتْ وَلَا تَنْشَقُّ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْجَوَانِبِ إِلَّا مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا، مَعَ أَنَّ الِانْتِفَاخَ حَاصِلٌ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ: أَمَّا الشِّقُّ الْأَعْلَى فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجُزْءُ الصَّاعِدُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَأَمَّا الشِّقُّ الْأَسْفَلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجُزْءُ الْغَائِصُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ، فَأَمَّا الْجُزْءُ الصَّاعِدُ فَبَعْدَ صُعُودِهِ يَحْصُلُ لَهُ سَاقٌ، ثُمَّ يَنْفَصِلُ مِنْ ذَلِكَ السَّاقِ أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى تِلْكَ الْأَغْصَانِ الْأَنْوَارُ أَوَّلًا، ثُمَّ الثِّمَارُ ثَانِيًا، وَيَحْصُلُ لِتِلْكَ الثِّمَارِ أَجْزَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالْكَثَافَةِ وَاللَّطَافَةِ وَهِيَ الْقُشُورُ ثُمَّ اللُّبُوبُ ثُمَّ الْأَدْهَانُ، وَأَمَّا الْجُزْءُ الْغَائِصُ مِنَ الشَّجَرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ الْعُرُوقَ تَنْتَهِي إِلَى أَطْرَافِهَا، وَتِلْكَ الْأَطْرَافُ تَكُونُ فِي اللَّطَافَةِ كَأَنَّهَا مِيَاهٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَمَعَ غَايَةِ لَطَافَتِهَا فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الْخَشِنَةِ، وَأَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا قُوًى جَاذِبَةً تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ مِنَ الطِّينِ إِلَى نَفْسِهَا، وَالْحِكْمَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ تَحْصِيلُ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ وَالْأُدَامِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عَبَسَ: 25، 26] الْآيَاتِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَضَعَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ بِحَيْثُ صَارَتْ أَسْبَابًا لِحُصُولِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَخَلَقَ اللَّيْلَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ وَخَلَقَ النَّهَارَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَعَاشِ وَالْحَرَكَةِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، [يونس: 5] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَامِ: 97] وَاقْرَأْ قَوْلَهُ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 5، 6]- إلى آخر الآية وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي عَجَائِبِ أَحْوَالِ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَآثَارِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ قَضَى صَرِيحُ عَقْلِكَ بِأَنَّ أَسْبَابَ تَرْبِيَةِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَدَلَائِلَ رَحْمَتِهِ لَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ لَكَ قَطْرَةٌ مِنْ بِحَارِ أَسْرَارِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَضَافَ الْحَمْدَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَى الْعَالَمِينَ/ وَالتَّقْدِيرُ:
إِنِّي أُحِبُّ الْحَمْدَ فَنِسْبَتُهُ إِلَى نَفْسِي بكونه ملكاً لي ثُمَّ لَمَّا ذَكَرْتُ نَفْسِي عَرَفْتُ نَفْسِي بِكَوْنِي رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، وَمَنْ عَرَفَ ذَاتًا بِصِفَةٍ فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ ذِكْرَ أَحْسَنِ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ أَكْمَلَ الْمَرَاتِبِ أَنْ يَكُونَ تَامًّا، وَفَوْقَ التَّمَامِ، فَقَوْلُنَا اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فِي ذَاتِهِ وَبِذَاتِهِ وَهُوَ التَّمَامُ، وَقَوْلُهُ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَائِضٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّهُ فَوْقَ التَّمَامِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ عِبَادًا غَيْرَكَ كَمَا قَالَ: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَأَنْتَ لَيْسَ لَكَ رَبٌّ سِوَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يُرَبِّيكَ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَبْدٌ سِوَاكَ وَأَنْتَ تَخْدُمُهُ كَأَنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرَهُ، فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ أَلَيْسَ أَنَّهُ يَحْفَظُكَ فِي النَّهَارِ عَنِ الْآفَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَبِاللَّيْلِ عَنِ الْمُخَافَاتِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُرَّاسَ يَحْرُسُونَ الْمَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَهَلْ يَحْرُسُونَهُ عَنْ لَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَهَلْ يَحْرُسُونَهُ عَنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ الْبَلِيَّاتُ؟ أَمَّا

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 200
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست