responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 166
يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُشَاهِدُ عَالَمَ الشَّهَادَةِ مَعْزُولًا بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَحِينَئِذٍ يَقُولُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
ثُمَّ إِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةً، وَهِيَ أَنَّ الرُّوحَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَضْعَفَ قُوَّةً مِنَ الْأَرْوَاحِ الْكَثِيرَةِ الْمُجْتَمِعَةِ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ رُوحَهُ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ، فَعِنْدَ هَذَا أَدْخَلَ رُوحَهُ فِي زُمْرَةِ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ إِلَى طَلَبِ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الرَّبَّانِيَّةِ، حَتَّى إِذَا اتَّصَلَ بِهَا وَانْخَرَطَ فِي سِلْكِهَا صَارَ الطَّلَبُ أَقْوَى وَالِاسْتِعْدَادُ أَتَمَّ، فَحِينَئِذٍ يَفُوزُ فِي تِلْكَ الْجَمْعِيَّةِ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفَوْزِ بِهِ حَالَ الْوَحْدَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْأَرْوَاحِ الْمُطَهَّرَةِ يُوجِبُ مَزِيدَ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ/ الِاتِّصَالَ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ يُوجِبُ الْخَيْبَةَ وَالْخُسْرَانَ وَالْخِذْلَانَ وَالْحِرْمَانَ، فَلِهَذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْفُسَّاقُ وَلَا الضَّالِّينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ.
وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ الثَّلَاثُ وَكَمُلَتْ هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثَةُ- أَعْنِي الشَّرِيعَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالطَّرِيقَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَالْحَقِيقَةَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ- ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ الِاسْتِسْعَادُ بِالِاتِّصَالِ بِأَرْبَابِ الصَّفَاءِ وَالِاسْتِكْمَالِ بِسَبَبِ الْمُبَاعَدَةِ عَنْ أَرْبَابِ الْجَفَاءِ وَالشَّقَاءِ، فَعِنْدَ هَذَا كَمُلَتِ الْمَعَارِجُ الْبَشَرِيَّةُ وَالْكَمَالَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَقْرِيرِ مُشَرِّعٍ آخَرَ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ السُّورَةِ، اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إِلَى جَرِّ الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُخَافَاتِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعَالَمَ عَالَمُ الْأَسْبَابِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مُعِينَةٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ مُعِينَةٍ، وَلَمَّا كَانَ جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ محبوباً بالذات، وكان استقراء أحوال هذا العالم يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْخَيْرِ وَلَا دَفْعُ الشَّرِّ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ، ثُمَّ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَحْبُوبِ إِلَّا بِوَاسِطَتِهِ فَهُوَ مَحْبُوبٌ- صَارَ هَذَا الْمَعْنَى سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ خِدْمَةِ الْأَمِيرِ وَالْوَزِيرِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ بَقِيَ الْإِنْسَانُ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، شَدِيدَ الْحُبِّ لَهَا، عَظِيمَ الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْحِكْمِيَّةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ حُبَّ التَّشَبُّهِ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِ الْخَلْقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى صِنَاعَةٍ مِنَ الصَّنَائِعِ وَحِرْفَةٍ مِنَ الْحِرَفِ مُدَّةً مَدِيدَةً صَارَتْ تِلْكَ الْحِرْفَةُ وَالصِّنَاعَةُ مَلَكَةً رَاسِخَةً قَوِيَّةً وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ كَانَتِ الْمَلَكَةُ أَقْوَى وَأَرْسَخَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَالَسَ الْفُسَّاقَ مَالَ طَبْعُهُ إِلَى الْفِسْقِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الْمُحَاكَاةِ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِقْرَاءَ حَالِ الدُّنْيَا يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ إِلَى جَرِّ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ مُوَاظَبَةُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا أَكْثَرَ كَانَ اسْتِحْكَامُ هَذَا الْمَيْلِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ أَقْوَى وَأَثْبَتَ، وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوَاظِبُونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمُحَاكَاةِ وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ هَذِهِ الْحَالَةِ. فَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَيِّنَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَنَّ الْأَسْبَابَ/ الْمُوجِبَةَ لِحُبِّ الدُّنْيَا وَالْمُرَغِّبَةَ فِي التَّعَلُّقِ بِأَسْبَابِهَا كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ لِلْإِنْسَانِ هِدَايَةٌ إِلَهِيَّةٌ تَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَقَعَ في

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 166
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست