responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 165
اعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ مَمْزُوجَةٌ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ لَا شك فيها، إلا أنا نَقُولَ: الشَّرُّ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الْخَيْرَ أَكْثَرُ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْجُوعُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الشِّبَعَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ عَاقِلٍ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِدُهَا دَائِمًا فِي التَّغَيُّرَاتِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، ثُمَّ إِنَّهُ يَجِدُ الْغَالِبَ فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالرَّاحَةُ وَالْبَهْجَةُ، أَمَّا الْأَحْوَالُ الْمَكْرُوهَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ أَحْوَالِ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ وَالرَّاحَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ لِأَجْلِ أَنَّهَا تَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا الرَّاحَةُ وَالْخَيْرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِلَهَ رَحِيمٌ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ، أَمَّا دَلَالَةُ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ فَلِأَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ تَشْهَدُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا سَمِعْنَا أَنَّ بَيْتًا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ صريح العقل شاهد بأنه لا بد له مِنْ فَاعِلٍ تَوَلَّى بِنَاءَ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا شَكَّكَنَا فِيهِ لَمْ نَتَشَكَّكْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ المتغيرة قادراً، إذا لَوْ كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَدَامَ الْأَثَرُ بِدَوَامِهِ، فَحُدُوثُ الْأَثَرِ بَعْدَ عَدَمِهِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مُؤَثِّرٍ قَادِرٍ، وَأَمَّا دَلَالَةُ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى كَوْنِ الْمُؤَثِّرِ رَحِيمًا مُحْسِنًا، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَالِبَ فِي تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ هُوَ الرَّاحَةُ وَالْخَيْرُ وَالْبَهْجَةُ وَالسَّلَامَةُ، وَمَنْ كَانَ غَالِبُ أَفْعَالِهِ رَاحَةً وَخَيْرًا وَكَرَامَةً وَسَلَامَةً كَانَ رَحِيمًا مُحْسِنًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مَعْلُومَةً لِكُلِّ أَحَدٍ وَحَاضِرَةً فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ عَاقِلٍ كَانَ مُوجِبُ حَمْدِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ حَاضِرًا فِي عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَمْدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمَّا نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ نَبَّهَ عَلَى مَقَامٍ آخَرَ أَعْلَى وَأَعْظَمَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي اشْتَغَلْتَ بِحَمْدِهِ هُوَ إِلَهُكَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ إِلَهُ كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِنَّمَا حَكَمْتَ بِافْتِقَارِ نَفْسِكَ إِلَى الْإِلَهِ لَمَّا حَصَلَ فِيكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ/ وَهَذِهِ الْمَعَانِي قَائِمَةٌ فِي كُلِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَأَنْوَاعِ التَّغَيُّرَاتِ، فَتَكُونُ عِلَّةُ احْتِيَاجِكَ إِلَى الْإِلَهِ الْمُدَبِّرِ قَائِمَةً فِيهَا، وَإِذَا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَعْلُولِ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ رَبًّا للعالمين، وإلهاً للسموات وَالْأَرَضِينَ، وَمُدَبِّرًا لِكُلِّ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ عَلَى عَظَمَتِهَا وَيَقْدِرُ على خلق العرش والكرسي والسموات وَالْكَوَاكِبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِهْلَاكِهَا، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْهَا، فَهَذَا الْقَادِرُ الْقَاهِرُ الْغَنِيُّ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ أَنِّي مَعَ نِهَايَةِ ذِلَّتِي وَحَقَارَتِي كَيْفَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ، وَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَاجِ الْمُوَافِقِ لِهَذَا الْمَرَضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ، أَنَا وَإِنْ كُنْتُ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ وَالْهَيْبَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ إِلَّا أَنِّي مَعَ ذَلِكَ عَظِيمُ الرَّحْمَةِ، فَأَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا أُخَلِّيكَ عَنْ أَقْسَامِ رَحْمَتِي وَأَنْوَاعِ نِعْمَتِي وَإِذَا مِتَّ فَأَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، لَا أُضِيعُ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِكَ، فَإِنْ أَتَيْتَنِي بِالْخَيْرِ قَابَلْتُ الْخَيْرَ الْوَاحِدَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَإِنْ أَتَيْتَنِي بِالْمَعْصِيَةِ قَابَلْتُهَا بِالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَغْفِرَةِ.
ثُمَّ لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَمَرَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: مَقَامُ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَثَانِيهَا: مَقَامُ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ أَنْ يُحَاوِلَ السَّفَرَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، فَيَرَى عَالَمَ الشَّهَادَةِ كَالْمُسَخَّرِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ، فَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا بِمَدَدٍ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 165
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست