responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الطبري = جامع البيان - ت شاكر المؤلف : الطبري، أبو جعفر    الجزء : 1  صفحة : 17
لجواز اجتماع ذلك في حالٍ واحدٍ من شخص واحد. فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به.
فكذلك ما قلنا -في الأحرف التي ذكرنا وما أشبهها- غيرُ مستحيل أن يكون عربيًّا بعضها أعجميًّا، وحبشيًّا بعضها عربيًّا، إذ كان موجودًا استعمالُ ذلك في كلتا الأمتين. فناسِبُ ما نَسبَ من ذلك إلى إحدى الأمتين أو كلتيهما محقٌّ غيرُ مبطل.
فإن ظن ذو غباءٍ أن اجتماع ذلك في الكلام مستحيلٌ -كما هو مستحيل في أنساب بني آدم- فقد ظنّ جهلا. وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر، لقول الله تعالى ذكره: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة الأحزاب: 5] . وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان، لأنّ المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفًا استعمالُه. فلو عُرِف استعمالُ بعض الكلام في أجناس من الأمم -جنسين أو أكثر- بلفظ واحد ومعنى واحد، كان ذلك منسوبًا إلى كل جنس من تلك الأجناس، لا يستحق جنسٌ منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره. كما لو أنّ أرضًا بين سَهل وجبل، لها هواء السهل وهواء الجبل، أو بين برٍّ وبحرٍ، لها هواء البر وهواءُ البحر- لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سُهْلية جبلية [1] . أو بأنها بَرِّية بِحْرية، إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافيةً حقَّها من النسبة إلى الأخرى. ولو أفردَ لها مفردٌ إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى، كان صادقًا محقًّا.
وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرناها في أول هذا الباب.
وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك، هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان- عندنا بمعنى، والله أعلم: أنّ فيه من كلّ لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به، نظيرَ ما وصفنا من القول فيما مضى.

[1] النسبة إلى سهل (بفتح فسكون) : سهلى، بضم السين، على غير القياس.
وأصل"الخشوع": التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر: (1)
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع (2)
يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده.
* * *
فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله، وكفها عن معاصي الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من مراضي الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ}
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه"يظن" أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟
قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين"ظنا"، والشك"ظنا"، نظير تسميتهم الظلمة

[1] الشعر لجرير.
(2) ديوان جرير: 345، والنقائض: 969، وقد جاء منسوبا له في تفسيره (1: 289 /7: 157 بولاق) ، وطبقات ابن سعد: 3/1/ 79، وسيبويه 1: 25، والأضداد لابن الأنباري: 258، والخزانة 2: 166. استشهد به سيبويه على أن تاء التأنيث جاءت للفعل، لما أضاف"سور" إلى مؤنث وهو"المدينة"، وهو بعض منها. قال سيبويه: "وربما قالوا في بعض الكلام: "ذهبت بعض أصابعه"، وإنما أنث البعض، لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه، ولو لم يكن منه لم يؤنثه. لأنه لو قال: "ذهبت عبد أمك" لم يحسن. (1: 25) .
وهذا البيت يعير به الفرزدق بالغدر ويهجوه، فإن الزبير بن العوام رضي الله عنه حين انصرف يوم الجمل، عرض له رجل من بني مجاشع رهط الفرزدق، فرماه فقتله غيلة. ووصف الجبال بأنها"خشع". يريد عند موته، خشعت وطأطأت من هول المصيبة في حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبح ما لقي من غدر بني مجاشع.
وأن استدلاله بها كان يقوم مقام الاستدلالِ بالشِّعر القديم، على فهم معنى كلمة، أو للدلالة على سياقِ جملة. وقد علقتُ في هذا الجزء 1: 454، 458 وغيرهما من المواضع تعليقًا يبينُ عن نهج للطبري في الاستدلال بهذه الآثار، وتركتُ التعليقَ في أماكنَ كثيرة جدًّا، اعتمادًا على هذا التعليق. ورأيتُ أن أدَعَ ذلك حتى أكتب كتابًا عن "الطبري المفسِّر" بعد الفراغ من طبع هذا التفسير. لأني رأيتُ هناكَ أشياء كثيرةً، ينبغي بيانُها، عن نهج الطبري في تفسيره. ورأيتني يجدّ لي كُلَّ يوم جديدٌ في معرفة نهجه، كلَّما زدتُ معرفةً بكتابه، وإلفًا لطريقته. فاسأل الله أن يعنيني أن أفردَ له كتابًا في الكلام عن أسلوبه في التفسير، مع بيان الحجّة في موضع موضعٍ، على ما تبيّن لي من أسلوبه فيه. ورحمَ الله أبا جعفر، فإنه، كما قال، كان حدَّث نفسه بهذا التفسيرِ وهو صبيٌّ، واستخار الله في عمله، وسأله العونَ على ما نواه، ثلاثَ سنين قبل أن يعمله، فأعانه الله سبحانه. ثم لما أراد أن يملي تفسيره قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدرُه؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا ممّا تفنَى فيه الأعمارُ قبل تمامه! فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقةٍ. فكان هذا الاختصار سببًا في تركه البيانَ عمّا نجتهد نحنُ في بيانه عند كل آية. وهذا الاختصارُ بيّنٌ جدًّا لمن يتتبّع هذا التفسيرَ من أولِه إِلى آخره.
هذا وقد كنتُ رأيتُ أن أكتب ترجمةً للطبري أجْعَلُها مقدّمَةً للتفسير. ولكنّي وجدت الكتابة عن تفسيره في هذه الترجمة، لن تتيسّر لي
اسم الکتاب : تفسير الطبري = جامع البيان - ت شاكر المؤلف : الطبري، أبو جعفر    الجزء : 1  صفحة : 17
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست