responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الطبري = جامع البيان - ط هجر المؤلف : الطبري، أبو جعفر    الجزء : 1  صفحة : 166
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ: " قُلْ يَا مُحَمَّدُ {§اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، يَقُولُ: أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِي " وَإِلْهَامُهُ إِيَّاهُ ذَلِكَ هُوَ تَوْفِيقُهُ لَهُ كَالَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ. وَمَعْنَاهُ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فِي أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمْرِهِ دُونَ مَا قَدْ مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَقَضَّى فِيمَا سَلَفَ مِنْ عُمْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَسْأَلَةٌ مِنْهُ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى أَدَاءِ مَا قَدْ كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاكَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ، فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ، وَوَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ مِنَ السَّبِيلِ وَالْمِنْهَاجِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَأَنَّى وَجَدْتَ الْهِدَايَةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ؟ قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى عَدَدَ مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر البسيط]
لَا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ اللَّهُ مَسْأَلَتِي ... وَلَا أَكُونَنَّ كَمَنْ أَوْدَى بِهِ السَّفَرُ
-[167]- يَعْنِي بِهِ: وَفَّقَكَ اللَّهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِي. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر المتقارب]
وَلَا تُعْجِلَنِّي هَدَاكَ الْمَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ: وَفَّقَكَ اللَّهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي أَمْرِي. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ. وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ لِلظَّالِمِينَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، وَقَدْ عَمَّ بِالْبَيَانِ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ خَلْقِهِ؟ وَلَكِنَّهُ عَنَى جَلَّ وَعَزَّ، أَنَّهُ لَا يُوَفِّقُهُمْ، وَلَا يَشْرَحُ لِلْحَقِّ وَالْإِيمَانِ صُدُورَهُمْ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا} [الفاتحة: 6] زِدْنَا هِدَايَةً. وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ قَدْ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْبَيَانِ، أَوِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ. فَإِنْ كَانَ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ فَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُكَلِّفُ عَبْدًا فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهِ إِلَّا بَعْدَ تَبْيِينِهِ لَهُ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ الْبَيَانَ، لَكَانَ قَدْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ خَلْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْرِضُ فَرْضًا إِلَّا مُبَيِّنًا لِمَنْ فَرَضَهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ -[168]- أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا. وَفِي فَسَادِ وَجْهِ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ مَا يُوَضِّحُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] غَيْرُ مَعْنَى بَيِّنْ لَنَا فَرَائِضَكَ وَحُدُودَكَ، أَوْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَنْ تَخْلُوَ مَسْأَلَتُهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ عَمَلِهِ، أَوْ عَلَى مَا يُحْدِثُ. وَفِي ارْتِفَاعِ حَاجَةِ الْعَبْدِ إِلَى الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ تَقَضَّى مِنْ عَمَلِهِ مَا يُعْلِمُ أَنَّ مَعْنَى مَسْأَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَتُهُ الزِّيَادَةَ لِمَا يُحْدِثُ مِنْ عَمَلِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبِّهِ التَّوْفِيقَ لِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ مِنْ فَرَائِضِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمْرِهِ. وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ أَهْلِ الْقَدَرِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِأَمْرٍ أَوْ مُكَلَّفٍ فَرْضًا، فَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَيْهِ مَا قَدِ ارْتَفَعَتْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ حَاجَتُهُ إِلَى رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ لَبَطَلَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَفِي صِحَّةِ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] : أَسْلِكْنَا طَرِيقَ الْجَنَّةِ فِي الْمَعَادِ، أَيْ قَدِّمْنَا لَهُ وَامْضِ بِنَا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] أَيْ أَدْخِلُوهُمُ النَّارَ؛ كَمَا تُهْدَى الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا، -[169]- يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهَا تُدْخَلُ إِلَيْهِ، وَكَمَا تُهْدَى الْهَدِيَّةُ إِلَى الرَّجُلِ، وَكَمَا تَهْدِي السَّاقَ الْقَدَمُ؛ نَظِيرُ قَوْلِ طَرَفَةَ بْنَ الْعَبْدِ:
[البحر المديد]
لَعِبَتْ بَعْدِي السُّيُولُ بِهِ ... وَجَرَى فِي رَوْنَقٍ رِهَمُهُ
لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ ... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهُ
أَيْ تَرِدُ بِهِ الْمَوَارِدَ. وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَا يُنْبِئُ عَنْ خَطَأِ هَذَا التَّأْوِيلِ مَعَ شَهَادَةِ الْحُجَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الصِّرَاطِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اهْدِنَا، إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ، وَهَدَيْتُهُ لِلطَّرِيقِ، وَهَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ: إِذَا أَرْشَدْتُهُ إِلَيْهِ وَسَدَّدْتُهُ لَهُ. وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {اجْتَبَاهُ وَهُدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] وَقَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَكُلُّ ذَلِكَ فَاشٍ فِي مَنْطِقِهَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
-[170]- أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
يُرِيدُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر السريع]
فَيَصِيدُنَا الْعِيرَ الْمُدِلَّ بِحُضْرِهِ ... قَبْلَ الْوَنَى وَالْأَشْعَبِ النَّبَّاحَا
يُرِيدُ: فَيَصِيدُ لَنَا. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ كِفَايَةٌ

اسم الکتاب : تفسير الطبري = جامع البيان - ط هجر المؤلف : الطبري، أبو جعفر    الجزء : 1  صفحة : 166
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست