ذكرَ سيبويهِ في كتابه أنَّ العربَ تحذِفُ من بعضِ الألفاظِ كحذفِها النونَ من (لم يكُ)، والألفَ من (لم أُبَلْ)، والياءَ من (لا أدرِ). وهذه المسألة تحتاجُ إلى شيءٍ من البيانِ يمحِّصُها، ويجلِّيها. وذلكَ أنَّ العِلَّة الصحيحةَ لهذا الحذفِ إنما هي الاستخفافُ لكثرةِ الاستعمالِ. فالاستِخفافُ هو العِلَّة الثانية، أو العِلَّة القياسية كما يسمِّيها الزجَّاجيُّ، أو عِلَّة العِلَّة كما يسمِّيها ابنُ السرَّاجِ، أو تتميم العِلَّة، وشرحها كما يسمِّيها ابنُ جني. وكثرةُ الاستِعمالِ هي العِلَّة الثالثةُ. ألا تَرى أنَّك لو سألتَ العربيَّ: لِمَ حذفتَ؟ كانَ جوابُه: (الاستخفافَ)، أي طلبَ الخِفَّة. فإذا قلتَ له: (ولِمَ طلبتَ الخِفَّة في هذه الأفعالِ، ولَمْ تطلبها في غيرِها؟)، قالَ: (لكثرةِ استعمالِها في الكلامِ). فقد رأيتَ أنَّ كثرةَ الاستِعمال لا تكونُ علَّةً ثانيةً للحكْمِ، ولا جزءًا من عِلَّةٍ مركَّبةٍ. ولا يجوز ذلكَ، لأنَّ جميعَ عِلَل النَّحو عِللٌ غائيةٌ ترجِعُ إلى بواعثَ نفسيَّةٍ، كالاستِثقالِ، وكراهيةِ اللبسِ. فأمَّا علةُ الفَرقِ، والتوكيدِ، ونحوُهما، فإنَّما يُرادُ بهما طلبُ الفَرقِ، والتوكيدِ. والطلبُ باعثٌ نفسيٌّ يصِحُّ أن يكونَ عِلَّةً غائيةً. فكلُّ ما وردَ عليكَ من هذا الضربِ فهذا سبيلُه. وعِلَّةُ الاستِخفافِ لكثرةِ الاستِعمالِ ظاهرةٌ طبيعيَّةٌ لا تكادُ تعرَى منها لغةٌ من اللِّغاتِ. وهي لا تَزالُ في لسانِ النَّاسِ إلى اليومِ، ففي بعضِ الأقطارِ يقولونَ مثلاً: (أبَمشي). وأصلُها (أبغي أمشي)، ثمَّ كثرت في كلامِهم، فحذفوا الغينَ، فقالوا: (أبي أمشي)، ثم حذفُوا الياءَ. وفي بعضِ البلدانِ يقولون: (أشتِي). وأصلها (أشتهي). وقد تحذِفُ العربُ من الكلمةِ الحرفَ بعدَ الحرفِ إذا طالَ تعاورُها بينَهم، وذلكَ نحوُ قولِهم: (مُ اللهِ). أصلُها (أيمُنُ اللهِ)، ثم لم يزالوا يُسقِطونَ منها حتى بقِيت على حرفٍ واحدٍ. ونظيرُها السِّين الدالَّة على الاستِقبالِ، فإنَّ أصلَها (سوفَ)، فحذفُوا منها الفاءَ، فقالوا: (سَوْ). وهي لغةٌ لناسٍ من أهلِ الحِجازِ حكَاها الكسائيُّ عنهم، ونقلَها عن الكسائيِّ أبو جعفرٍ النحَّاسُ في «إعراب القرآن». ثمَّ حذفُوا الواوَ، فبقِيتِ السِّينُ وحدَها. ولمَّا كانت (سوفَ) أصلاً للسِّينِ، كانَ معناهما واحدًا. وقد استَدلَّ ابنُ مالكٍ في «شرح التسهيل» على هذا بقوله تعالَى: ((وسوفَ يؤتِ الله المؤمنين أجرًا عظيمًا))، وقولِه: ((أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا))، وقولِه: ((كلا سيعلَمون))، وقولِه: ((كلا سوفَ تعلمون)) والمعنَى واحدٌ. وقلَّما يتجاوزُ الحذفُ الحرفينِ، والثلاثةَ. وفي هذا ردٌّ على مَن زعمَ أن قولَ العامَّة: (سَمْ) أصلُه (سَمعًا وطاعةً). والصوابُ أنَّ هذه الكلمةَ باقيةٌ على أصلِها لم يمسَسْها شيءٌ من الحذفِ. وهي فعلُ أمرٍ من (التسمية)، أي سَمِّ ما تريدُ. والدليلُ على ذلك أمورٌ ثلاثةٌ، أحدُها الاحتجاجُ بالغالبِ المطَّرِد في الحذفِ. وهو أنَّه لا يكادُ يُجاوِز الحرفينِ، والثلاثةَ. ومقتضَى هذا الاحتجاجُ بعدمِ النظيرِ لقولِهم. وإنما احتججتُ بالحذفِ في كلامِ العربِ على كلامِ العامَّة، لأنَّ الحذفَ من الظواهرِ اللُّغويَّة الطبيعيَّة، لا الوضعيَّة الاصطلاحيَّة. والثاني الاحتجاجُ بالنظيرِ المعنويِّ. وذلكَ أنَّ بعضَهم يقول مكانَ هذه الكلمة: (اومُرْ). وهي قريبةٌ من معنَى (سَمْ)، ولفظِها أيضًا. والثالث الاحتجاجُ بالبقاء على الأصلِ، أو ما يُسمَّى باستصحابِ الحالِ. وذلكَ أنَّ القولَ بالحذفِ خروجٌ عن الأصلِ في الكلمةِ، وهو عدمُ الحذفِ.
وقد يكونُ الاستِخفافُ عِلَّةً للإبدالِ، كما أبدلُوا واوَ (وَناة) همزةً، فقالوا: (أناة)، ولم يبدلوا واوَ (وَصاة)، ولا (وَباء)، ولا ما أشبهَهما. والعِلَّة الثالثةُ في هذا الموضعِ ليست كثرةَ الاستعمالِ، لأنَّ (وناةً) ليست أكثرَ من (وصاة)، و (وباءٍ)، وغيرهما. وإنما هي عِلَّة التفنُّنِ في الأوضاعِ. وعِلَّة التفنُّنِ، وعلَّة الاستِخفافِ أيضًا عِلَّتانِ شبيهتانِ بالعِلَّةِ الاعتباطيَّة، من قِبَلِ أنَّه ليسَ شيءٌ من الكلامِ أحقَّ بهما من الآخَر، لأنَّ كلَّ موضعٍ من المواضعِ تُستحَبُّ فيه الخِفَّة، ويجوز أن يصرفَ عن أصلِه تفنُّنًا، واقتدارًا. وليس لذلكَ حدٌّ يُنتهَى إليه. وقد يخلطُ بعضُ النّحاةِ بينَ الاستخفافِ، والاستثقالِ. وبينَهما تباينٌ، إذِ الاستِثقالُ عِلَّتُه متمكِّنةٌ، فهوَ من مَّا يحتاجُ إليه بعضُ المواضعِ دونَ بعضٍ. ومثالُ ذلكَ إبدالُهم الواوَ المضمومةَ ضمًّا لازمًا همزةً، كما قالوا في (وُجوه): (أُجوه)، إذْ كانت الواوُ حرفًا ثقيلاً، فإذا اجتمع إلى ثِقَلِه ثِقَلُ الضَمِّ، ازدادَ ثِقَلاً. وهذا كما تَرَى داعيةُ الإبدالِ. وذلكَ على خلافِ الاستخفافِ، فإنه لا يوجِبه ثِقَلٌ صوتيٌّ، وإنما هو استزادةٌ من الخِفَّة. ولذلكَ كانَ جائزًا أن يقعَ في كلِّ موضعٍ من الكلامِ.
فيصل المنصور
¥
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1577