اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1525
أعتذر من الحضور
ـ[فيصل المنصور]ــــــــ[29 - 04 - 2010, 12:11 م]ـ أعتذر من الحضور
أولِعَ كثيرٌ من مَّن يتعاطَى التصحيح اللُّغويَّ بتخطئةِ قولِ العامَّة: (أعتذرُ من الحضورِ) من قِبَلِ أنَّ الاعتذارَ إنما يكونُ من الذنبِ، والخطأ. والحضورُ لم يقع. ولو وقعَ، لكانَ قاطعًا للاعتذارِ، لا موجِبًا له. ويرونَ أنَّ الصوابَ: (أعتذرُ من عدمِ الحضورِ، أو من تركِ الحضورِ، أو من التخلُّفِ عن الحضور، أو من الغِيابِ). وهذا الذي رأوه هو الصوابَ لا ريبَ أنَّه صوابٌ، ولكنَّ الوجهَ الذي خطَّئوه صوابٌ أيضًا. وذلكَ على أن يكونَ إيجازًا بالحذفِ. وهو راجعٌ إلى قياسينِ:
الأولُ: قياسٌ عامٌّ. وذلك على مطلقِ الحذفِ. وهو كثيرٌ في كلامِهم. وأشهرُ ما يستدلُّونَ به عليه قولُه تعالَى: ((واسألِ القريةَ)) أي: أهل القريةِ. فحذفَ (أهل)، وأنابَ المضافَ إليه مُنابَه.
الثاني: قياسٌ أخصُّ. وذلك على حذفِ (عدَمٍ)، أو (ترْكٍ) خاصَّةً. وقد شغلتني هذه المسألةُ زمنًا، وما زلتُ أتتبعُ لها الشواهدَ، حتى اجتمعَ لي من ذلكَ قدرٌ صالحٌ، منه قولُ النابغةِ الذبيانيِّ:
فإني لا ألامُ على دخولٍ ... ولكن ما وراءَك يا عِصامُ
قالَ ثعلب في «شرح ديوان الخنساء»: (أي: لا ألام على تركي الدخولَ، لأني محجوبٌ عنه). وقال ابن فارس في «الصاحبي»: (يقول: لا ألام على ترك الدخول، لأن النعمانَ قد كان نذرَ دمَه متى رآه، فخاطبَ بهذا الكلام حاجبَه).
وقالَ قيسُ بن رِفاعة:
أنا النذير لكم منِّي مناصحةً ... كي لا ألامَ على نَهي، وإنذارِ
قالَ أبو عبيدٍ البكريُّ في «اللآلي»: (أي: على تركِ نهيٍ).
وقالَت الخنساءُ:
يا صخرُ، ورَّادَ ماءٍ قد تناذَرَه ... أهلُ المواردِ ما في وِردِه عارُ
قالَ ثعلب في «شرح ديوانها»: (أرادت: ما في تركِ وردِه عارٌ. أي: ليس يُعيَّر أحدٌ أن يعجِز عنه، من صعوبة وردِه).
وقالَ المرقِّش الأكبر:
ليس على طولِ الحياةِ ندَمْ ... ومن وراء المرء ما يعلمْ
قالَ ثعلب في «شرح ديوان الخنساء»: (أي: ليس على فوتِ طولِ الحياةِ ما يُندَم عليه، لأنَّ ذلك يؤدي إلى الهرم، وفساد العيش).
وقالَ ثعلبة العبديُّ:
وأهلكَ مُهْرَ أبيك الدوا ... ءُ ليسَ له من طعامٍ نصيبُ
قالَ أبو محمدٍ الأنباريُّ في «شرح المفضليات»: (أرادَ: أهلكَه تركُ الدواءِ).
وقالَ حِطَّان بن المعلَّى:
وغالني الدهرُ بوَفر الغنى ... فليس لي مالٌ سِوى عرضي
قلتُ: أي: بعدَم وفرِ الغنى.
وذلكَ الحذفُ معقودٌ على أن يكونَ في الكلامِ، أو الحالِ ما يَدلُّ على المحذوفِ، ويخبرُ عنه. ولذلكَ فإن قولَ القائل: (أعتذر من الحضور) صحيحٌ، إذْ كانَ في معرفةِ المخاطَب بعدمِ حضورِه، وكونِ الحضورِ من مَّا لا يقتضي الاعتذارَ، ما يغني عن ذكرِ هذا اللفظِ، ويَدلُّ عليه.
وأحبُّ أن أبيِّنَ أنَّه قد احتجَّ بالقياس العامِّ بعضُ من صحَّحَ هذا الأسلوبَ. فأمَّا القياسُ الخاصُّ، فلم أقِف على من ذكرَ شيئًا من شواهدِه التي سقتُها آنِفًا.
وهذه المسألة تقودنا إلى مسألةٍ أخرَى متصلةٍ منها بسببٍ. وذلكَ أنَّ المسموعَ عنِ العربِ في تعدية (اعتذرَ) إلى الموجِبِ له إنما هو بـ (من). ولم يُسمَع تعديتُها بـ (عن) في ما اطلعتُ عليه. وقد حملَ هذا بعضَ من كتبَ في قضايا التصحيحِ على أن يُخطِّئ قولَهم: (اعتذرت عن عدمِ الحضور). وهذه التخطئة غيرُ مسلَّمٍ بها، فإنَّ التعديةَ بـ (عن) جائزةٌ قياسًا، وإن لم يُسعف بها سَماعٌ. وذلك أنَّ حروفَ الجرِّ مقيسةٌ في رأيي متَى ما لاءَمَت معنَى الفِعلِ، وسايرته. وهذا الأمر مفضٍ بنا إلى بابٍ من النَّحوِ ذي شعبٍ فسيحةٍ، ومسالكَ ملتويةٍ، غيرَ أنّي أجتزِئ بمثالٍ واحدٍ ينبئ عن أصلِ البابِ، ومنهاجِ النظرِ فيه، وهو كلمةُ (بعُد)، فإنهم عدَّوها بـ (مِن) كما قالَ دُريدُ بن الصِّمَّةِ:
كميشُ الإزارِ، خارجٌ نِصفُ ساقِهِ ... بعيدٌ من الآفاتِ، طلاعُ أنجدِ
و (عن) كما قالَ تعالَى: ((ألئكَ عنها مبعدون))، و (علَى) كما قالَ جميلُ بُثينة:
بعيدٌ على مَن ليسَ يطلبُ حاجةً ... وأمَّا على ذي حاجةٍ فقريبُ
ولكلٍّ وجهٌ من التأويلِ يُطيعُ له المعنَى. وكذلكَ قياسُ سائرِ البابِ عندي.
¥
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1525