responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين    الجزء : 1  صفحة : 1354
مذهب شيخ الإسلام في التمييز من حيث التنكير والتعريف
ـ[تأبط خيرًا]ــــــــ[14 - 01 - 2011, 11:28 م]ـ
البسملة1

كَانَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللهُ رُوْحَهُ- بَحْرًا تَتَلاطَمُ فِيْهِ أَمْوَاجُ العِلْمِ، يَغْرِفُ مِنْهُ مَا شَاءَ بِإِنَاءِ الفَهْمِ، ولِقَلَمِهِ دُفْوقٌ كَدُفُوقِ اليَعْبُوبِ، إِذَا أَطْلَقَ لَهُ العِنَانَ أَتَى بِمَا يُذْهِلُ الأَلْبَابَ ويَمْلِكُ القُلُوبَ، يَقْطِفُ بِهِ ثَمَرَاتٍ عَذْبَةً مِنْ أَدْوَاحِ العُلُومِ، فَيُشْتَفَى بِهَا مَنْ كَلَّ نَظَرُهُ، وَحَارَ عَقْلُهُ.

وَهَذَا تَحْقِيقٌ لَهُ في إِحْدَى مِسَائِلِ التَّمْيِيْزِ -قَالَهُ في تَضَاعِيْفِ تَفْسِيْرِهِ لِسُورَةِ الكَافِرُونَ- (مَجْمُوعُ الفَتَاوَى 569/ 16):

وَقَولُهُ: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ. وَفِيْهِ مِنْ جِهَةِ الإِعْرَابِ وَالمَعْنَى قَولانِ:
أَحَدُهُمَا -وَهُوَ قَولُ الفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُحَاةِ الكُوفَةِ واخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَولِ أَكْثَرِ السَلَفِ-: أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي سَفِهَتْ. فَإِنَّ (سَفِه َ) فِعْلٌ لازِمٌ لا يَتَعَدَّى، لَكِنِ المَعْنَى: إلا مَنْ كَانَ سَفِيْهًا، فَجَعَلَ الفِعْلَ لَهُ وَنَصَبَ النَّفْسَ عَلَى التَّمْيِيْزِ [1] لا النَّكِرَةِ، كَقَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مَرْيَم: 4].
وَأَمَّا الكُوفِيُّونَ فَعَرَّفُوا هَذَا وَهَذَا. قَالَ الفَرَّاءُ: نَصَبَ النَّفْسَ عَلَى التَّشْبِيْهِ بِالتَّفْسِيْرِ، كَمَا يُقَالُ: ضِقْتُ بِالأَمْرِ ذَرْعًا، مَعْنَاهُ: ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ. وَمِثْلُهُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، أَيْ: اِشْتَعَلَ الشَّيْبُ في الرَّأْسِ. قَالَ: وَمِنْهُ قَولُهُ: أَلِمَ فُلانٌ رَأْسَهُ، وَوَجِعَ بَطْنَهُ، وَرَشَدَ أَمْرَهُ. وَكَانَ الأَصْلُ: سَفِهَتْ نَفْسُ زَيْدٍ، وَرَشَدَ أَمْرُهُ، فَلَمَّا حَوَّلَ الفِعْلَ إلى زِيْدٍ انْتَصَبِ مَا بَعْدَهُ عَلَى التَّمْيِيْزِ.
فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَرَفَهَا الفَرَّاءُ مِنْ كَلامِ العَرَبِ. وَمِثْلُهُ قَولُهُ: غَبِنَ فُلانٌ رَأْيَهُ، وَبطِرَ عَيْشَهُ. وَمِثْلُ هَذَا قَولَهُ: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]، أَيْ: بَطِرَتْ نَفْسُ المَعِيْشَةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَولِ يَمَانٍ بْنِ رَبَابَ: حَمِقَ رَأْيَهُ وَنَفْسَهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَولِ ابْنِ السَّائِبِ: ضَلَّ مِنْ قَبْلُ نَفْسَهُ، وَقَولِ أَبِي رَوْقٍ: عَجَزَ رَأْيَهُ عَنْ نَفْسِهِ
.
والبَصْرِيُّونَ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَهِلَ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، والزَّجَّاجُ. قَالَ: لأنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللهِ فَقَدْ جَهِلَ نَفْسَهُ، لأنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ خَالِقَهَا.
وهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيْفٌ. فِإِنَّهُ إِنْ قِيْلَ: إِنَّ المَعْنَى صَحِيْحٌ، فَهُوَ إِنَّمَا قَالَ: {سَفِهَ}، و (سَفِهَ) فِعْلٌ لازِمٌ، لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ، و (جَهِلَ) فِعْلٌ مُتَعَدٍّ. وَلَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ (سَفِهْتُ كَذَا) أَلْبَتَّةَ بِمَعْنَى: جَهِلْتُهُ. بَلْ قَالُوا: سَفُه -بِالضَّمِّ- سَفَاهَةً، أَيْ صَارَ سَفِيْهًا، وسَفِهَ -بِالكَسْرِ- أَيْ: حَصَلَ مِنْهُ سَفَهٌ، كَمَا قَالُوا في (فَقُهَ وفَقِهَ). وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ: سَفِهْتُ الشُرْبَ إِذَا أَكْثَرْتَ مِنْهُ. وَهُوَ يُوَافِقُ مَا حَكَاهُ الفَرَّاءُ، أّيْ: صَارَ شُرْبُهُ سفيهًا، فَسَفِهَ شُرْبُهُ لَمَّا جَاوَزَ الحَدَّ.
وَقَالَ الأَخْفَشُ، وَيُونُسُ: نَصَبَ بِإسْقَاطِ الخَافِضِ، أَيْ: سَفِهَ في نَفْسِهِ. وَقَولُهُمْ (بِإِسْقَاطِ الخَافِضِ)، لَيْسَ هُوَ أَصْلاً فَيُعْتَبَرُ بِهِ، وَلَكِنْ قَدْ تُنْزَعُ حُرُوفُ الجَرِّ في مَوَاضِعَ مَسْمُوعَةٍ، فَيَتَعَدَّى الفِعْلُ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ مَقِيْسًا في بَعْضِ الصُوَرِ، فَـ (سَفِهَ) لَيْسَ مِنْ هَذَا، لا يُقَالُ: سَفِهْتُ أَمْرَ اللهِ، وَلا دِيْنَ الإسْلامِ، بِمَعْنَى: جَهِلْتُهُ، أَيْ: سَفِهْتُ فِيْهِ. وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ وَيُنْصَبُ عَلَى التَّمْيِيْزِ مَا خَصَ بِهِ، مِثْلَ نَفْسِهِ وَشُرْبِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. اهـ

أَخُوكُمْ: تَأَبَّطَ خَيْرًا.

[1] أَظُنُّ أَنَّ في هَذَا المَوضِعِ سَقْطًا؛ إِذِ الكَلامُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ.
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين    الجزء : 1  صفحة : 1354
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست