وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران: أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملتهم وبِيَعهم، وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء القدس نص على حريتهم الدينية وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتها: لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود" -كما رواه الطبراني.
وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم؛ فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم تكن لهم فيها كنيسة من قبل؛ وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب.
على أن من فقهاء المسلمين من أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبيع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي: أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك؛ بناء على مصلحة رآها ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم، وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك.
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين وذلك منذ عهد مبكر؛ فقد بنيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل: كنيسة ماري مرقص بالإسكندرية ما بين عامي 39 و56 هجرية؛ كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم ما بين عامي 47 و68 هجرية؛ كما سمح عبد العزيز بن مروان حين