فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعًا شديدًا، وقال لأصحابه: "هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل .. إنَّ هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخرابِ الأرض" ثم أقبل على عبادة، وأراد أن يسلك معه طريق الإرهاب المغلَّف في قالبٍ من النصح، فقال له: "أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرتَ عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على مَن ظهرتم عليه، إلَّا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم مِن جمع الروم ما لا يُحصى عدده، قوم معرفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم مَن لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها، وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به" [1].
فنظر إليه "عبادة بن الصامت" شامخًا، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلًا: "يا هذا لا يغرنَّ نفسَك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه ... إن قُتِلنا عن آخرنا كان أمكنَ لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقرّ لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، وما من رجل إلَّا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وألا يردَّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس
(1) "السابق" (1/ 293).