ذلك الأسود، وقدِّموا غيره يكلمني"، فقال الوفد جميعًا:
"إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيدنا وخيرُنا والمقدَّم علينا، وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمَّره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا ألا نخالفَ رأيه وقوله"، ثم قالوا -وكان قولهم عجيبًا عند المقوقس-: "إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحدٌ أحدًا إلَّا بفضله، وعقله، وليس بلونه" [1].
ولا مراء في أن "المقوقس" كان مستاء من وجود عبادة بن الصامت، ذلك العبد الأسود، وحَسِبَ أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيرًا. لمقام المقوقس وتحقيرًا لشأنه، فلما أجمع رسل المسلمين على أنه المتحدث باسمهم جميعًا، لم ير المقوقس بُدًّا من محادثة عُبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة: "إن فيمن خلَّفتُ من أصحابي ألفَ رجل أسود، كلهم أشد سوادًا مني .. وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي، لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزوُنا عَدُوَّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إِلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه" ([2])،
(1) "الخطط" للمقريزي (1/ 292).
(2) "السابق" (1/ 293).