"ناولني"، فناوله قدحًا فيه ماء وثلج، فأخذه ونظر إليه هنيَّةً، ثم ردَّه ولم يشرب! فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما هو فيه من الهول! [1]، وعلَّق الإمام أبو الفرج بن الجوزي على موقف الإمام أحمد رحمه الله قائلاً: (هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى فبذلها، كما هانت على بلال نفسه، وقد روينا عن سعيد بن المسيب: "أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى أهون من نفس ذباب"، وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب، فعيون البصائر ناظرة إلى
=يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، هؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة. أما أولوا العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذا تقية. وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق، لا يصدعون بما يؤمرون، يجاملون في دينهم وفي الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعًا، أو خافوا منه ضرًّا، في الحقير والجليل من أمر الدنيا. وكل أمر الدنيا حقير. فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين، فيما كتب إلى أبي رحمه الله، من خطاب سياسي عظيم، في جمادى الأولى سنة 1337، قال: "كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري وقد فهموا منها ما فهموا، كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال؟! وكيف يفهمون تعرضه - صلى الله عليه وسلم - لصنوف البلاء والإيذاء؟! ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله"؟!) اهـ. من "ترجمة الإمام أحمد" للذهبي هامش ص (49 - 50).
(1) "ترجمة الإمام أحمد" للحافظ الذهبى، ص (48 - 50).