فهذه هي صلاحيات المحتسب، وأساليب تغييره للمنكر. ولكن قد يبذل المحتسب ما في وسعه؛ لتحقيق الأهداف العامة للحسبة داخل مجتمعه على قدر طاقته وعلمه، لكنه أمام ظرف من الظروف قد يقف دون تحقيقها أو بعضها بعد أن يكون قد استنفذ كل درجات تغيير المنكر التي عرفناها.
فهل نقول: إن مهمته قد انتهت، وأن ذمته قد برئت؟
والجواب: أنه لا زال في إمكان المحتسب أن يقوم بعمل ما، يواصل من خلاله إنجاز مهمته بشأن تغيير المنكر الذي عجز عنه، وذلك بإحالة الأمر إلى جهات قضائية أخرى، قد يكون لها من الوسائل والإمكانات ما يعين على تحقيق ذلك الهدف الذي عجز عن تحقيقه، فيقيم المحتسب دعوى تسمى في لغة الفقهاء والأصوليين: دعوى الحسبة، وهذا لا يعني إلغاء دور المحتسب القضائي، ولكنه دور مقصور على ما ليس من اختصاص ولاية القضاء، فهو لا ينظر إلا في الدعوى التي ليس فيها سماع بينة، ولا نفاذ حكم، ففي هذه قضايا ينظر المحتسب، ويبت دون أن يقيم دعوى حسبة، أما ما زاد عن ذلك ففيها تكون دعوى الحسبة.
ولذا يقول ابن خلدون -رحمه الله-: "وليس له أيضًا الحكم في الدعاوى مطلقًا، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها، وفي المكاييل والموازين، وله أيضًا حمل المماطلين على الإنصاف، وغير ذلك مما ليس فيه سماع بينة، ولا نفاذ حكم، وكأنها أحكام لا ينظر فيها القضاء لعمومها وسهولة أغراضها، فترفع إلى صاحب هذه الوظيفة -يعني: المحتسب-؛ ليقوم بها.
وأما من يحق له رفع دعوى الحسبة، فهل هو المحتسب المكلف أم المتطوع؟
والجواب: كلاهما يحق له رفع الدعوى، وإن كان المكلف معنيًّا بها أكثر؛ بحكم سلطته، وصلته داخل الحكومة الإسلامية.