responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : شرح الطحاوية = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف : آل الشيخ، صالح    الجزء : 1  صفحة : 66
خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا

شرع الطحاوي رحمه الله في ذكر بعض صفات الرب - عز وجل - المتعلقة بقدره السابق، وبمشيئته العامة، وأنه سبحانه ذو العلم الكامل المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، وأنه سبحانه الذي أجرى كل شيء على وفق ما أراد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وهذه المسائل التي سمعتم والجمل متصلة ببحث القَدَرْ، والمؤلف الطحاوي لم يجمع الكلام في القَدَرْ في موضع واحد، بل فرقه في نحو ثلاثة مواضع.
ولهذا كان من عيوب هذه الرسالة أنها جرت على وفق ما تيسر لمؤلفها، والترتيب ينفع المُتَلَقِّي لكن بالنسبة لنا سنجري على وفق ما جرى هو عليه، ونذكر ما يفيد إن شاء الله في كل موضع بحسبه.
قال هنا (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ)
قال (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) هو سبحانه خلق المخلوقات عالماً بها غير جاهل بما هي عليه ومتى يؤول إليه أمرها.
وأورد هذه الجملة الطحاوي مخالفاً أهل الاعتزال الذين لا يجعلون العلم مصاحباً لصفات الله - عز وجل - ولأفعاله.
وعِلْمُ الله سبحانه وتعالى صفة ملازمة، هو سبحانه وتعالى عالم بعلمٍ، وخالق بعلمٍ، وقادر بعلم، ورحيم بعلمٍ، يرحم من يشاء عن علمٍ، وهذا العلم صفته - عز وجل - الملازمة له لا تنفك عنه.
وعلمه سبحانه أَوَّلْ، قبل خلق الخلق كان عالِمَاً، بما يصلح لهم وما تقتضيه حكمته فيهم.
لهذا قال (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) ففي هذا رد على المعتزلة من جهة الصفات، وفيه ردّ أيضا على القدرية - أعني بهم الذين ينفون علم الله السابق، القدرية الغلاة نفاة القدر - الذين يقولون إنَّ العلم حَدَثَ بعد وجود الأشياء فهو سبحانه عَلِمَ بعد وقوع الأشياء، فَخَلَقَ الخَلْقْ فَفَعَلَ الناس فَعَلِمَ - عز وجل - ذلك.
واستدلوا على هذه النِّحلة بقوله - عز وجل - {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، وبقوله - عز وجل - في تحويل القبلة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] ، ونحو ذلك من الآيات التي فيها تعليل بعض الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية وحصول الأشياء بأن يعلم الله - عز وجل - ذلك.
قال - عز وجل - في هذه الآية {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} .
فزعموا أنّ هذه الآيات وأشباه هذه الآيات تدلّ على أنه - عز وجل - لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تقع.
وأهل السنة مثبتون لعلم الله - عز وجل - الكُلِّي بالأشياء ولِعِلْمِ الله - عز وجل - التفصيلي بأجزاء الأشياء وحوادثها المفردات.
وإذا عُلِّلَ شيء في القرآن أو في السنة لكي يعلم الله - عز وجل - ذلك الشيء فإن معناه عندهم - بما دلت عليه الأدلة - معناه حتى يَظْهَرَ عِلْمُ الله في الأشياء في هذه الأمور ليقع حسابُه وليقع تعذيبه أو تنعيمه أو نحو ذلك، يعني إظهار ما تنقطع به الحجة.
فقوله سبحانه {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} يعني إلا ليظهر علمنا فيمن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه؛ لأنَّ الله - عز وجل - لو آخذ العباد، وآخذهم وحاسبهم على علمه السابق فيهم لكان لهم حجة.
فهو سبحانه جعل هذه الأشياء مع علمه السابق بما سيفعله العباد لكي يظهر علمه فيهم.
فجاء إذاً هنا (لكي) في قوله (لِنَعْلَمَ) حتى يظهر العِلْمُ فيكون ذلك حجة على الناس.
وهذا ظاهر بَيِّنْ أنَّ علم الله سبحانه وتعالى للأشياء قبل وقوعها، قال سبحانه {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحج:70] ، هذا وفي الآية الأخرى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت:52] ، وهذا يدلك على أنَّ الله سبحانه وتعالى عَلِم قبل الكتابة، والكتابة متأخرة على العلم، وهذا الذي يجعلنا نقول أنّ علم الله - عز وجل - أول بالأشياء.
وهنا يُقَيَّدُ ذلك بعلم الله - عز وجل - بما أراده سبحانه وتعالى.
فإذا أراد الله - عز وجل - شيئاً علم تفصيلاته، وخلق المخلوقات وخلق الأشياء بعلمه؛ يعني على وَفق علمه سبحانه وتعالى بها، وهو عالم بها غير جاهل بها.
ولهذا قرأتم أو قرأ بعضكم ما في مناظرات المعتزلة مع أهل السنة في أنَّ المعتزلة يقولون في أسماء الله - عز وجل - إنه سبحانه مثلاً عالم بغير علم، وخالق بغير خلق، وحي بغير حياة، وهكذا، يجعلون الصفات مخلوقات منفصلة.
فعندهم العلم هو المعلومات.
فتعلقت الصفات التي يثبتونها بالمعلوم فصار عالماً، لا لعلم حدث فيه.
وذلك فرارا منهم من مسألة حدوث مفردات العلم.
لأنَّ العلم له مفردات وإذا حلت المفردات؛ - يعني عَلِمَ هذه - معناه أنه حل به عِلْمٌ بهذا الشيء الذي حصل، أو تعلق به خَلْقُ هذا الشيء، فكأنه - عز وجل - صارت له صفة لم تكن له من قبل.
وهذا يستلزم والتركيب، والتركيب يستلزم الجسمية، والجسمية تنافي ألوهية الرب - عز وجل - كما هو مقرر في موضعه.
المقصود أنَّ قوله (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) ظاهر.
معناه أنه خلق سبحانه المخلوقات وهو عالم بها، وهو - عز وجل - عَلِمَ قبل خلقها، وأيضا يعلمها بعد خلقها.
ثم قال رحمه الله تعالى (وَقَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا)
يعني قَدَّرَ للخلق أقداراً، وذلك لقول الله - عز وجل - {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، ولقوله سبحانه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وقال سبحانه وتعالى أيضا {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] ، والإيمان بِقَدَرِ الله - عز وجل - هذا ركن من أركان صحة الإيمان، فهو واجب لأنَّ التكذيب به باطل كما سيأتي مفصلاً في موضعه.
فقول المؤلف (وَقَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا) يعني أنه جعل للمخلوقات أقداراً، لا تُحَصِّل المخلوقات ما هي عليه بلا ترتيبٍ سابق، بلا تقدير سابق.
وهذا يشمل أشياء -يعني تقدير الأقدار لهم- يشمل أشياء:
1 - الأول:
تقدير ما به تمام خلقهم، فإنَّ الله - عز وجل - قَدَّرَ لكل مخلوق خِلقَةْ يكون عليها، ووصوله إلى غاية هذه الخِلْقَة أيضا يحتاج إلى تقدير، فالجنين لا يخرج من بطن أمه إلا وقد سبقه تقدير تفصيلي لكل المراحل التي سيمر بها وما يَعرِضُ له من كمال أو نقص، كما قال - عز وجل - {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] .
2 - الثاني:
أنَّ مقادير المخلوقات مُقَدَّرَة في الصفات التي تكون عليها المخلوقات من الغرائز والأحوال التي يسميها الآخرون الأعراض، فكل الأعراض التي تَعرِضُ على الذوات الله - عز وجل - قَدَّرَهَا، فَقَدَّرَ الألوان بتفصيلاتها، وقَدَّرَ الصفات من الحرارة واليبوسة، وقَدَّرَ الذكاء، وقَدَّرَ تفصيلات الحياة التي في المخلوق بجميع أحواله، سواء في ذلك المخلوقات التي حياتها بالروح، أو المخلوقات التي حياتها بالنماء، أو المخلوقات الجامدة عن الحركة الظاهرة.
3 - الثالث:
قَدَّرَ الله - عز وجل - على المكلَّفين من مخلوقاته ما هم عليه من الشقاوة ومن السّعادة ومن الهدى ومن الضلال، ولهذا قال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2-3] ، فَرَتَّبَ الهداية بعد التقدير لأنه عنى بالتقدير هنا المرتبتين الأُوليين؛ لأنه جعلها بعد قوله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} يعني جعل الخلق على نهايته يعني سَوَّاه، يعني جعله على نهايته المقدرة له، ثم قال {وَالَّذِي قَدَّرَ} يعني لِمَا خلق من الأشياء الغريزية والخلقية فهدى للطريقين.
إذا تبين لك ذلك فالله سبحانه وتعالى قَدَّرَ للأشياء المقادير، وتعبير المؤلف بقوله (قَدَّرَ لهمْ) هذا مناسب من لو قال: قَدَّرَ عليهم أقدار لأنَّ التقدير لهم يشمل ما سيكونون عليه من خير أو شر.
إذا تبين هذا ففى قوله (وَقَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا) مسائل:
اسم الکتاب : شرح الطحاوية = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف : آل الشيخ، صالح    الجزء : 1  صفحة : 66
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست