اسم الکتاب : شرح الطحاوية = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف : آل الشيخ، صالح الجزء : 1 صفحة : 348
والجماعة التي هي على الحق لم يتركها الله - عز وجل - لم يُبَيِّنْهَا، ولم يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبَيِّنْهَا؛ بل بَيَّنَهَا الله - عز وجل - بقوله {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، المراد بالمؤمنين هنا الصحابة؛ لأنهم هم المقصودون بذلك في وقت تنزّل هذه الآية {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبَيَّنَ ذلك الأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» ، وفي رواية أخرى قال «هم الغرباء» ، وفي رواية ثالثة قال «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» إلى غير لك، وهذا يدلّ على أن الجماعة موجودة في زمن الصحابة، وهي موجودة في زمن التابعين، وموجودة يحملها أئمة السلف وأئمة الإسلام امتثالاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» [1] أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على كل مسلم يريد السلامة في دينه وأن يكون ممن وَعَدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون من الفرقة الواحدة التي لم تأخذ سبيل الثنتين والسبعين فرقة أن يلزم أمر الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وهذا من أعظم مقاصد الدّين العظيمة التي يمتثلها العبد بامتثال قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ، فالعبد المؤمن يلزم هذه الطريقة.
وكيف يلزمها؟
بتعلُّم هذه العقيدة المباركة فإنَّ دروس العقيدة والمحاضرات في التوحيد والعقيدة هي التي تنقلك إلى الالتزام بطريقة الجماعة الأولى قبل أن تفسد الجماعة.
ولهذا ففتّش أنت بنفسك وستجد أنَّ من خالف أمر الجماعة الأولى وأحدث شعارات جديدة وأهداف وآراء وكتباً غير كتب السلف في هذه المسائل، ستجد أنه خالف شيئاً من أمور الاعتقاد ولا بد، فإذاً خالف طريق الجماعة قبل أن تفسد الجماعة.
وهذه مسألة مهمة فتعدد الجماعات ليس مثل تعدد الفقهاء؛ بل الواجب على جميع أمة الإسلام أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا امتثالاً لقول الله جل جلاله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، يعني لا تتفرقوا في الأبدان ولا تتفرقوا أيضا في الدين بل التزموا بالقرآن الذي يدعو إلى الإجتماع على الحق. (2)
: [[الشريط السادس والعشرون]] :
س[3]/أشكلت علي مسألة وهي: أنَّ كل من انتسب إلى القبلة من أهل الأهواء والبدع وغيرهم ينتسبون إلى الإسلام، ومن قال إنَّ المجتمعات مجتمعات جاهلية، فكيف يكون الإيضاح على هذا الأمر؟
ج/ الأول ذكرناه وقَرَّرْنَاهُ لكم فيما سبق أنَّ من كان منتسباً إلى القبلة بالصلاة إليها من أهل التوحيد فهو من أهل القبلة، وإذا عَرَضَ له هوى أو بدعة فإنَّ البدع درجات والأهواء أيضاً درجات، فلا نُخْرِجُهُ من الإسلام لبِدْعَةٍ فيه، يعني لمجرد بدعة فيه أو بكل بدعة فيه، ولا نُخْرِجُهُ من الإسلام بمجرد الهوى الذي يكون في هذه الأمة؛ بل لابد أن يكون الهوى مُؤَثِّرَاً أو أن تكون البدعة مُغَلَّظَةً مُكَفِّرَةْ.
أما من قال مجتمعات المسلمين اليوم مجتمعات جاهلية، فهذا باطل؛ لأنَّ الجاهلية في النصوص هي اسم لفترة زمنية مضت، قال - عز وجل - {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب:33] الأولى وقال سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ، وهذه الجاهلية تكون في العقيدة، في العبادة، تكون في الأحوال الاجتماعية وتكون في الأخلاق وتكون في الآداب.
فهي من جهة الزمان انقضت زمانها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
أما من جهة المكان فإنَّ الجاهلية اسم يتبع صفة الجهل، والجهل يتنوع، والجهل العام ارتفع ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق» [3] ووجود هذه الطائفة على الحق حتى قيام الساعة يمنع رجوع الجهل العام ورجوع الجاهلية العامة.
فإذاً الجاهلية العامة في الأمكنة ذهبت، وجاهلية الزمان ذهبت، بَقِيَ نوع آخر من الجاهلية وهو جاهلية الصِّفَات، فمن أَشْبَهَ أهل الجاهلية في صِفَةْ فهو مشارِك لهم في هذه الصفة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما عَيَّرَ رجلا أسودا بأمه فقال له: يا ابن السوداء. قال له صلى الله عليه وسلم «إنك امرؤ فيك جاهلية» [4] يعني فيك خصلة من خصال أهل الجاهلية، وخصال الجاهلية متنوعة كثيرة دل عليها القرآن والسنة يعني فيما خالف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية.
وألّف في هذا إمام هذه الدعوة الكتاب المشهور مسائل أهل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية.
فتلك المسائل منها ما هو مُكَفِّرْ كعبادة غير الله، منها ما هو في الاعتقادات، ومنها ما هو في المسائل العملية، ومنها ما هو في الاجتماعيات، ومنها ما هو في الأقوال إلى آخره.
فجاهلية الصفات هذه باقية، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لتسلكُنَّ مسلك الأمم من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟
قال «فمن الناس إلا أولئك» [5] .
فارس والروم خصالهم من خصال الجاهلية؛ بل خصالهم خصال جاهلية في الاعتقاد وفي الأقوال وفي الأعمال، فدل على أنَّ خصال الجاهلية تكون في هذه الأمم.
فإذاً وَصْفُ الأرض بأنها صارت إلى جاهلية هذا باطل، ومناقض لحكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وحكم الله - جل جلاله - في قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] ، فظهر دين محمد صلى الله عليه وسلم على كل دين وظهرت مِلَّتُهُ على كل مِلَّة وظهر هَدْيُهُ على كل هدي.
والحمد لله على ذلك كما قال - جل جلاله - {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:[4]] ، فَرُفِعَ ذِكْرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فوق ذكر غيره، فصار هو المُقَدَّمَ صلى الله عليه وسلم في الإتِّبَاعْ وفي الهَدْيْ في أكثر الأرض ولله الحمد.
كذلك جاهلية الزمان لا يوجد زمان يكون زمان جاهلية، لأنَّ زمن الجاهلية انتهى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
فلا يقال مثلاً هذا القرن قَرْنٌ جاهلي، أهل هذا القرن في جاهلية ونحو ذلك؛ بل لا تزال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم صنوف الخير ولله الحمد على منته وتوفيقه. [1] البخاري (7311) / مسلم (5059)
(2) انتهى الشريط الخامس والعشرون. [3] سبق ذكره (348) [4] البخاري (30) / مسلم (4403) [5] البخاري (7319) / مسلم (6952)
اسم الکتاب : شرح الطحاوية = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف : آل الشيخ، صالح الجزء : 1 صفحة : 348