اسم الکتاب : شرح الطحاوية = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف : آل الشيخ، صالح الجزء : 1 صفحة : 223
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ.
هذه الجُمل من هذه العقيدة المباركة شروعٌ من الطحاوي رحمه الله في مسألة القَدَرْ.
ومسألة القَدَرْ والبحث فيها من المسائل العظيمة جداً؛ لأنَّ الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة وبين المخالفين كثير ومتنوّع.
والطّحاوي لم يُرَتِّب الكلام على مسألة القَدَرْ ولم يتناوله تناولا منهجيا واضحا بيِّناً بل فرَّقَهُ وذَكَرَ جُمَلاً منه، ولهذا فإننا سنذكر إن شاء الله تعالى كل ما يتصل ببحث القدر في هذا الموضع إنْ اتسع له الوقت، ونُحيل فيما نستقبل على هذا الموضع الذي نأتيه عند قوله (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) .
قال (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ.)
هذه الجملة أخذها انتزاعاً من عدد من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وتلك الأحاديث متنوعة وثابتة في أَنَّ الله جل جلاله خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً وعَلِمَ ما هم عاملون، خَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وعَلِمَ ما هم عاملون، وأنَّ الله سبحانه قَبَضَ قَبْضَةً إلى النار وقبض قبضة إلى الجنة، وأنّ الله سبحانه لما استخرج ذرية آدم من ظهره قال (هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار) فلا يُزاد من ذلك العدد ولا يُنقَصْ، والأحاديث في هذا كثيرة متنوعة.
لكن المراد من ذلك هو ذِكْرُ أعظم مراتب الإيمان بالقدر ألا وهي مرتبة العلم.
حيث ذَكَرَ أنَّ الله سبحانه عَلِمَ عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار، وكذلك عَلِمَ أفعالهم.
(فعَلِمَ العدد) : يعني عَلِمَ الأفراد وعَلِمَ الأعمال.
والأعمال يدخل فيها القول والعمل والاعتقاد والأحوال جميعا، من جميع تصرفات أصحاب الجنة وأصحاب النار.
وهذا فيه إجمال لذكر هذه المرتبة العظيمة وهي مرتبة العلم.
قال بعدها (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)
هذه الجملة ثبتت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم «اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيَسرٌ لما خُلِقَ لَه» [1] يعني بذلك قول الله - عز وجل - {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] .
ومعنى (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) أنَّ الله - عز وجل - خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، فهؤلاء أهل السَّعَادة سَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة، خَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، فهؤلاء سَيُيَسَّرُونَ للعسرى؛ لعمل أهل الشّقاوة.
وقوله (كُلٌّ مُيَسَّرٌ) لا تفيد الجَبْرْ؛ وإنما يعني أنَّ الله سبحانه علِمَ أنّ هؤلاء سيعملون بعمل أهل النار وكَتَبهُمْ من أهل النار، وأنهم لِمَا في نفوسهم من الخُبْثْ سيكونون من أهل النار، فسيتركهم الله - عز وجل - لأنفسهم؛ يعني سيخْذُلُهُمْ، فإذا خذلهم يُسِّر لهم سبيل الضلال.
يعني أنَّ التيسير لأهل الجنة فيه زيادة فضل والتيسير لأهل النار فيه سلب الفضل.
وهذا يعني أنْ لا جَبْرَ، وأَنَّ الجميع مُعامَلُون بعدل الله - عز وجل -، وأنَّ أهل الجنة عاملهم الله سبحانه وتعالى زيادة على عدله بأن منحهم فضلاً ويَسَّرَ لهم وأعانهم على الخير.
قال (وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)
الأعمال بالخواتيم يعني بذلك ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم «فإنّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلُها، وإنّ أحدهم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» [2] لهذا كان كثير من السلف إذا ذَكَرُوا الخاتمة بَكَوا كثيراً، وقال بعضهم (قلوب الأبرار مُعَلَّقَةٌ بالخواتيم يقولون بماذا يُختَمُ لنا؟) (3)
وهذا التعلق بالخواتيم، وهذا الإيمان بهذا النوع من القدر، يجعل العبد المؤمن صاحب يَقَظَة وحرص على إيمانه؛ لأنّ الله سبحانه لا يظلم النّاس شيئاً، والعبد يُيَسَر لعمل أهل الشقاوة إذا اختار هذا الطّريق، فإذا جاهد نفسه فإنّ الله سبحانه أعظم فَضْلَاً ومِنَّةً وكرماً، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ، وقال سبحانه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] .
[.....] .
يعني مدافعة نوازع الباطن في النفس.
قال (وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ)
يعني أنَّ السّعيد هو من جعله الله سعيداً إذْ قَضَى عليه أنْ يكون من المخلوقين، وهذا يُشير به إلى حديث (نفخ الروح وأنَّ الملك يأتي إلى الجنين ويقول: يا ربي شقي أو سعيد؟ ويؤمر بكَتْب أربع كلمات، بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) [4] .
وهنا في قوله (بِقَضَاءِ اللَّهِ) ، (مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) يعني به القدر.
وهذا على أحد الوجهين أو أحد القولين في أنَّ القضاء والقدر بمعنى واحد، وسيأتي تفصيل لهذه الجملة والفرق بين القضاء والقدر.
وهذا أيضا هو معنى قوله (وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) .
ولهذا نقول: إنَّ هذه الجملة فيها تقريرٌ لمرتبة العلم، والكلام على هذه المرتبة يمكن أن نرتّبه لك في مسائل: [1] سبق ذكره (215) [2] سبق ذكره (211) في قوله صلى الله عليه وسلم (لا هو في النار)
(3) شعب الإيمان (866) / حلية الأولياء (10/121) / تاريخ دمشق (20/191) [4] البخاري (3208) / مسلم (6893) / أبو داود (4708) / ابن ماجه (76)
اسم الکتاب : شرح الطحاوية = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف : آل الشيخ، صالح الجزء : 1 صفحة : 223