وإذا كانت دعوة الأنبياء في جوهرها واحدة، فإن أول فرض الجهاد في الإسلام كان إذناً وليس أمراً ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) [الحج:39].
وذلك أن القلة المسلمة في مكة كانت تطمع في الثأر لنفسها من الاضطهاد المرير الذي تلقاه من جبابرة مشركي قريش؛ كأن تغتال بعض المضطهدين مثلاً، أو تسلبهم شيئاً من أموالهم وراحتهم، واستأذنوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فكان الأمر من الله بكف اليد، ولذلك أجابهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني لم أومر بهذا}.
وذلك كي تظل الدعوة سائرة في منهجها المرسوم لا تستفزها تحركات الأعداء للإيقاع بها وإبادتها في مهدها.
ولو قدر للمسيح -عليه السلام- أن تبلغ دعوته من القوة ما بلغت الدعوة الإسلامية عند الإذن بالجهاد لأذن لقومه بأن يرفضوا دفع الجزية لقيصر، بل لأمرهم بجهاد الرومان وإشهار عداوتهم.
وبذلك يتضح أنه حتى في حالة ثبوت العبارة فإنها ذات مدلول جزئي مؤقت في مسألة فرعية، ولا يجوز أن يستنبط منه قاعدة أبدية عامة يفضي تطبيقها إلى إهمال شريعة الله، والتخلي عن إقامة دينه في واقع الحياة وإقرار أحكام الطاغوت.
2 - "مملكتي ليست من هذا العالم" بقطع النظر عن صحة نسبة هذه العبارة إلى المسيح عليه السلام أو عدمها، نجد أن الكنيسة فهمتها فهماً خاصاً، وجعلت هذا الفهم منهجاً وأصلاً من أصول عقيدتها تقاوم بها الفطرة البشرية والعقل السليم والتطور الإيماني المستقيم.