وقبل أن نحاول إيضاح المفهوم الحقيقي لعقيدة التوحيد، يحسن بنا النظر إلى حال الأقوام الذين بعثت فيهم الرسل واشتبكت معهم في صراع دائب على مدار التاريخ، ذلك أن معرفة حالهم هي خير معين لمعرفة العقيدة التي أنزلها الله لتصحيح هذه الحال.
وما دامت مهمة المرسلين واحدة وقضيتهم مع أممهم واحدة، فلننظر إلى الأمة التي بعث بها النبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآخر وأكمل الرسالات، كيف كانت تصوراتها؟ وكيف كان منهج حياتها؟ وبصفة أخص فيم ولماذا اشتد النزاع بينها وبين دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
إن الدارس لعقائد الجاهلية العربية يجد- من أول وهلة- أنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة ... ، والشواهد على ذلك كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25] وفي كلام العرب وشعرهم كقول امرئ القيس:
إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن على أهله كلاً فقد كمل الفتى (1)
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:148] ((وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)) [يونس:31].
ومنه قول عنترة:
يا عبل أين من المنية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها (2)
(ديوان عنترة:183).
(1) ديوان امرئ القيس، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم: (366).
(2) ديوان عنترة: (183).