اسم الکتاب : شرح المفصل المؤلف : ابن يعيش الجزء : 1 صفحة : 395
فأمّا قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [1]، وما كان مثلَه، نحو قوله تعالى: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [2]، فإنّه يجوز فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدُها: أن يكون كالمسألة التي قبلها، فيكون التقديرُ- والله أعلمُ- انتهوا، وائْتُوا خيرًا لكم. وآمِنوا وائتوا خيرًا لكم، هذا مذهبُ سيبويه، والخليلِ. قال سيبويه [3]: لأنّك حين قلت: "انته" فأنتَ تريد أن تُخْرِجه من أمر، وتُدْخِله في أمر آخر، فكأنّه أمرٌ أن يكُفّ عن الشرّ والباطلِ ويأتي الخيرَ.
الثاني: وهو مذهبُ الكسائي، أنّه منصوبٌ، لأنه خبرُ "كان" محذوفة، والتقدير: انتهوا يكن الانتهاءُ خيرًا لكم.
الثالث: وهو مذهبُ الفرّاء، أن يكون "خَيْرًا" متّصِلًا بالأول ومن جملته، ويكون صفة لمصدر محذوف، كأنّه قال: "انتهوا انتهاءً خيرًا لكم، وآمنوا إيمانًا خيرًا لكم".
ومن ذلك "حَسْبُك خيرًا لك"، و"وراءَك أوسعَ لك"، فهذان المثلان من قبيل الأوّل، فقولُك: "حسبك" أمرٌ، كأنّك قلت: "اكْفُفْ عن هذا الأمر، واقْطَعْ، وائتِ خيرًا لك". وقولُهم: "وراءك أوسعَ لك" معناه: خَلِّ هذا المكانَ الذي هو وراءك، وائْتِ مكانًا أوسعَ لك. فالأوّل منهيٌّ عنه والثاني مأمورٌ به، إلاّ أنّ أفعالَ هذه الأشياء لا تظهر، لأنّه كثُر استعمالها، وعلِم المخاطَبُ أنّه محمول على أمرِ غيرِ ما كان فيه، فصارت هذه الأسماءُ عِوَضًا من اللفظ بالفعل.
وممّا جاء منصوبًا بإضمار فعل لم يُستعمل إظهارُه قولُهم: "من أنتَ زيدًا"؟ وأصلُه: أنّ رجلًا غيرَ معروف بفضل تسمَّى بـ "زيد"، وكان زيدٌ مشهورًا بالفضل والشجاعة، فلمّا تسمَّى الرجل المجهول باسم ذي الفضل، دُفع عن ذلك، فقيل له: "من أنت زيدًا"؟ على جهةِ الإنكار، كأنّه قال: "من أنت تذكر زيدًا، أو ذاكرًا"، لكنه لا يظهر ذلك الناصبُ, لأنّه كثُر في كلامهم حتى صار مَثَلاَ، ولأنّه قد عُلم أنّ "زيدًا" ليس خبرًا، فلم يكن بُدٌّ من حَمْله على فعلٍ، ولا يقال ذلك إلّا جَوابًا، كأنّه لما قال: "أنا زيدٌ" قيل: "من أنت تذكر زيدًا، أو ذاكرًا زيدًا؟ ".
وبعضُ العرب يرفع ذلك، فيقول: "من أنت زيدٌ"؟ فيكون خبرًا عن مصدر محذوف، كأنّه قال: "من أنت، كلامُك زيدٌ؟ " فإن قيل: كيف يجوز أن يكون خبرَ المصدر، والخبرُ إذا كان مفردًا يكون هو المبتدأَ في المعنى، وليس الخبرُ ها هنا المبتدأَ؟ قيل: ثمّ مضافٌ محذوفُ، والتقديرُ: من أنت كلامُك كلامُ زيد، أو ذكرُك ذكرُ زيد، ثمّ حُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مُقامَه توسُّعًا على حدِّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [4]. [1] النساء:171. [2] النساء:170. [3] الكتاب 1/ 283 - 284. [4] يوسف: 82.
اسم الکتاب : شرح المفصل المؤلف : ابن يعيش الجزء : 1 صفحة : 395