يرحلون إليها من مختلف الأمصار لإتمام ما ابتدءوه من العلوم والفنون، فكانت بمثابة مدرسة عليا لطلاب العلوم الشرعية والعربية. وكان فيها كبار المحدثين والقراء والفقهاء والنحويين وحفاظ اللغة وآداب العرب، وقلما كان يتم لإنسان وصف عالم أو فقيه أو محدث إلا إذا رحل إلى بغداد وأخذ عن علمائها [1].
والمأمون كان عهده من أرقى عهود العلم في عصر بني العباس ساعد على ذلك أمران:
أولهما: اشتغال الخليفة نفسه بالعلم وطلبه منذ نعومة أظفاره فلقد جالس العلماء وأخذ عنهم الحديث والتفسير والفقه واللغة فعلى سبيل المثال قد عمل أبو عبيد غريب الحديث للمأمون وقرأه عليه [2].
وثانيهما: نبوغ الأعداد الغفيرة من العلماء آنذاك في مختلف العلوم [3] إذ امتلأت أرجاء الولايات الإسلامية بكبار الحفاظ والأئمة كالإمام أحمد والبخاري والأصمعي والكسائي، والفراء، وابن المبارك، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح وأمثالهم وأشباههم.
وتبع الخلفاء في الاهتمام بشأن العلم وإعلاء منزلة العلماء كثير من القواد والولاة في هذا العصر أمثال طاهر بن الحسين والي خراسان وابنه عبد الله من بعده وهرثمة بن أعين والي طرسوس.
.... ولئن كان ذلك كذلك فإني لا أعتبر اهتمام الخلفاء وولاتهم في أي عصر من العصور الزاهرة في تاريخ أمتنا وحده سببا في نبوغ العلماء ووصول الخط البياني للعلم إلى أعلى درجة في الارتفاع. إذ أن البذور لا تستنبت في الهواء ولو لم يلق الخلفاء والولاة نهضة علمية جادة قوية التمكين لما نشأ لديهم الاهتمام بالعلم أصلا ولما وجدوا إبداعا علميا يكافئون عليه أصحابه ومبدعيه. بل إن [1] انظر: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ص 135. [2] انظر: تاريخ بغداد 12/ 408. [3] انظر: محاضرات تاريخ الأمم 206.