ففي هذه الآية الكريمة استعارات متعددة تبلغ أعلى درجات البيان:
أنظر قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وتأمل ما فيه من اجتذاب النفوس والعقول والمشاعر، فقد أضاف اللباس إلى الجوع، وفي ذلك تشبيه الجوع باللباس، على سبيل الاستعارة، فالجوع القائم المستمكن الذي يعدم فيه القل، ويكثر العدم، والخوف الذي يفزع النفوس، ويذهب بالاطمئنان، ويلقي بالاضطراب، شبه باللباس السابغ، لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله، وكذلك الجوع إذا عم، والخوف إذا طم، فإنه لا يبقى في الجماعة أحد لم ينله، لأن الأزمات الجانحة، والخوف من عدوّ داهم لا ينجو منه أحد، فكان التعبير عن هذه الحال باللباس، وفوق ذلك فإن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه، وكذلك الجوع، والهم والغم والخوف، وفي ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمّها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها.
وهناك استعارة أخرى وهي قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ، فإن اللباس يلبس ولا يذاق، ولكن لباس الجوع والخوف لأنه يتصل بالنفس، وبالنعمة تزول بعد أن كفروا بها، عبّر عنه بالذوق، فشبّه حال النزول بحال الإذاقة، للنزول الذي ترتب عليه أنهم أحسوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا في بحبوحة العيش فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى.
وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات، وهو تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها، ولم تؤد الطاعات ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق رزقها، وبدلت من الأمن خوفا، ومن الرغد جوعا [1].
ومن الأمثلة للتصوير بالجملة قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [2]. [1] المعجزة الكبرى لمحمد أبو زهرة ص 278 - 280. [2] سورة مريم، الآية 4.