اختار في المعنى الأول صيغة اسم الفاعل صافَّاتٍ، وفي المعنى الثاني الفعل المضارع يَقْبِضْنَ.
ولو أنه قال: «قابضات ويصففن» لما فات التناغم الموسيقى الذي يتوهم بعض الناس فيه ما لا يجوز من الأوهام، فما السر في هذا الاختيار للصيغة المختلفة في كل معنى من المعنيين؟
إن الإعجاز العلمي الكامن وراء هذا التصوير هو الذي يكشف لنا سر هذا الاختيار.
لقد عبّر القرآن عن بسط جناح الطائر في طيرانه باسم الفاعل صافَّاتٍ، وعبّر عن قبض الطائر جناحه وضربه جنوبه بجناحيه بصيغة الفعل يَقْبِضْنَ، ليأتي التصوير الفني في القرآن على غاية الدقة في موافقة قانون الطيران، وذلك لأن الأصل في قاعدة الطيران هو بسط أطراف الجسم الطائر في الهواء، وهو القانون الذي بنيت عليه الطائرات الحديثة بأنواعها، ووجدت به رياضة الطيران الشراعي، فجاء القرآن في تصويره للطيران بالتعبير عما هو طارئ بلفظ الفعل، لأنه يفيد الحدوث وعبّر عما هو الأصل بصيغة اسم الفاعل، أي أنهن في جو السماء صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة [1].
ومن التصوير بالجملة:
قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
وقد جاء التصوير في الجمل هنا بواسطة الاستعارة، وهي استعارة قرآنية تعلو إلى أسمى مراتب البلاغة، لا يصل إليها بيان إنساني قط، إنما هو بيان القرآن فقط. [1] باختصار وتصرف عن تفسيري الكشاف والنسفي وكتابنا محاضرات في تفسير القرآن ص 127 - 128.