اسم الکتاب : خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان المؤلف : عبد الرحيم الطحان الجزء : 1 صفحة : 394
قال الإمام النووي – عليه رحمة ربنا القوي –: وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، من ذلك قوله – تبارك وتعالى –: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النور19، والآيات في ذلك كثيرة [1] .
وفي فتح الباري نقلا ًعن الإمام ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – قال: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس، وهو من عمل القلب [1]هـ وفيه نقلا ً عن الخطابي – عليه رحمة الله تعالى – من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلا ً فيجد الباب مغلقاً، ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا فلم ينتشر، أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلا ً 10هـ وفيه أيضاً أن الإمام ابن المبارك سأل الإمام الثوري – عليهم جميعاً رحمة الله تعالى – فقال: أيؤاخذ العبد بما يهتم به؟ قال: إذا جزم بذلك يؤاخذ [2] . [1] انظر شرح صحيح الإمام مسلم: (2/151) مع بعض الاختصار، ونقله الحافظ في الفتح: (11/327) وانظر إكمال المعلم، ومكمل الإكمال: (2/236) الثاني في حاشية الأول. [2] انظر فتح الباري: (11/326-328) ،وفيه أيضاً نقلا ً عن الإمام السبكي الكبير – عليه رحمة الله تعالى – تحقيق جليل، لحكم ما يدور في الضمير، حيث قسم ما يدور في نفوس الخلق إلى خمسة أحوال في الميزان الحق، فدونهما يا طالب الصدق، مع تقريرها بأدلة الحق:
الأول: الهاجس، وهو الشعور بأمر من الأمور، في جانب الخير أو الشرور، وهو مرفوع عن المخلوقات فلا يكتب لهم في الطاعات، ولا عليهم في الخطيئات.
الثاني: الخاطر، وهو جريان ذلك الشعور في النفس البشرية، ودون استمراره في أوقات مستقبلة زمنية، وهذا لا يكتب لفاعله – أيضاً – في الأحوال المرضية كما لا يكتب عليه في الأحوال الردية.
الثالث: حديث النفس ويقال له: الوسوسة وهو استمرار ذلك الجريان في مدة من مستقبل الزمان دون قصد لفعل ذلك من قبل الإنسان، ويكتب هذا للإنسان في جانب الإحسان ولا يؤاخذ عليه في جانب العصيان.
الرابع: الهم، وهو قصد فعل ما دار في النفس، وترجيح الفعل على الترك، ويكتب هذا للعباد في الخيرات ولا يحاسبون عليه في المنكرات.
الخامس: العزم وهو القصد الجازم لفعل العبد ما هم عليه، ورفع التردد منه لديه، بحيث لو لم يحل بينه وبين عزمه مانع، لحصل منه الفعل بلا منازع ولا مدافع، ويكتب هذا للمكلفين في الخيرات، كما يكتب عليهم في السيئات.
وهذه الأحكام جمعها بعض أئمة الإسلام في السيئات:
مَراتبُ القَصْدِ خمسٌ هاجِسٌ ذكروا ... فَخَاطِرٌ فحديثُ النفس فاسْتمعا
يليه همٌ فَعَزْمٌ كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخْذ ُ قَدْوَقَعَا
وخلاصة الكلام: إن الهاجس والخاطر لا يكتبان، في الطاعات ولا العصيان لأنهما يهجمان على الإنسان، ويزولان ولا يلبثان، ولا يبذل المكلف نحوهما أي شيء كان.
وأما حديث النفس والهم فيكتبان للمكلفين، إذا صدرا في طاعة رب العالمين، لوجود شيء من الركون إليهما، ولا يكتبان في السيئات لعدم التصميم عليهما، رحمة من الله ولطفاً بنا.
وأما العزم فيكتب في الطاعات والسيئات، لوجود التصميم عليه من قبل المكلفين والمكلفات. وقد تقدم قريباً حديث أبي كبشة، وأبي بكرة – رضي الله تعالى عنهما – في كتابة ما يعزم عليه الإنسان، في الخير أو العصيان، وتقدم سابقاً في هذا الكتاب المبارك: (......-.....) عدة أحاديث جياد، تشير إلى رفع المؤاخذة عن العباد، إذا دار في نفوسهم شيء من الزيغ والفساد وإليك هذا الحديث الجامع، الذي فيه دليل صريح لما تقدم من تفصيل رائع، ثبت في صحيح البخاري – كتاب الرقاق – باب من هم بحسنة أو سيئة –: (11/323) بشرح ابن حجر وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب: (1/117-118) وسنن الترمذي – كتاب التفسير – سورة الأنعام –: (8/232) ، وسنن الدارمي – كتاب الرقاق – باب من هم بحسنة –: (2/321) ، والمسند: (2/234، 411، 498، 3/149) كلهم من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – إلا رواية البخاري والدارمي فعن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – ورواه الإمام مسلم في المكان المتقدم عنهما، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – أيضاً: (1/227، 279، 310، 361) وهذا لفظ رواية الشيخين عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربه – عز وجل – قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنان إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة؟ كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة".
فهذا فيما يتعلق بجانب الهم في الحسنات والسيئات، وفي لفظ لمسلم من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "قال الله – عز وجل –: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفر له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها بمثلها" فهذا فيما يتعلق بحديث النفس، وحكمه كما تقدم كالهم، وإن كان الهم آكد وأقوى وقد ورد التصريح بأنه لا يكتب في السيئات ففي صحيح البخاري – كتاب الإيمان والنذر – باب إذا حنث ناسياً –: (11/549) وفي كتاب الطلاق – باب 11: (9/388) ، وكتاب العتق – باب 6: (5/160) بشرح ابن حجر في الجميع، وصحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر –: (1/116-117) ، وسنن أبي داود – كتاب الطلاق – باب في الوسوسة بالطلاق –: (2/657) ، وسنن الترمذي – كتاب الطلاق – باب فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته –: (4/169) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الطلاق – باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به – وباب طلاق المكره والناسي: (1/658-659) ، وسنن النسائي – كتاب الطلاق – باب فيمن طلق في نفسه –: (6/127) ، والمسند: (2/255، 393، 435، 474، 481، 491) وشرح السنة للبغوي – كتاب الإيمان – باب العفو عن حديث النفس –: (1/108) كلهم من رواية أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه –، ورواه الطبراني من رواية عمران بن حصين، وثوبان – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – كما في مجمع الزوائد: (6/250) وهذا لفظ رواية الصحيحين: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم".
اسم الکتاب : خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان المؤلف : عبد الرحيم الطحان الجزء : 1 صفحة : 394