responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى    الجزء : 1  صفحة : 53
مطلب: أنه لا تتفق الإجادة في فني: التعلم والنثر، إلا للأقل
والسبب فيه: أنه ملكة في اللسان، فإذا سبقت إلى حله ملكة أخرى، قصرت عن تمام تلك الملكة اللاحقة، لأن قبول الملكات وحصولها، على الفطرة الأولى، أسهل، وإذا تقدمتها ملكات أخرى كانت منازعة لها، فوقعت المنافاة، وتعذر التمام في الملكة، وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق.

مناظرة أهل الطريقتين
اعلم أن السالكين اختلفوا في تفضيل الطريقين.
قال أرباب النظر: الأفضل طريق النظر، لأن طريق التصفية صعب، والواصل قليل، على أنه قد يفسد بالمزاج، ويختلط العقل في أثناء المجاهدة.
وقال أهل التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر، لا تصفو عن شوب الوهم، ومخالطة الخيال غالبا، ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد، فيضلون، وأيضا يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى، بخلاف التصوف، فإنه: تصفية للروح، وتطهير للقلب عن الوهم والخيال، فلا يبقى إلا الانتظار، للفيض من العلوم الإلهية، وأما صعوبة المسلك وبعده، فلا يقدح في صحة العلم، مع أنه يسير على من يسره الله - سبحانه وتعالى -، وأما اختلال المزاج، فإن وقع فيقبل العلاج، ومثلوا: بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير، حتى أدى الافتخار إلى الاختبار، فعين لكل منهما جدار، بينهما حجاب، فتكلف أحديهما في صنعتهم، واشتغل الأخرى بالتصقيل، فلما ارتفع الحجاب، ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل، وقالوا: هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية، فالأول: يحصل من طريق الحواس، بالكد، والعناء، والثاني: يحصل من اللوح المحفوظ، والملأ الأعلى.
وأعترض عليهم: بأنا لا نسلم مطلق الحصول، لأن كل علم مسائل كثيرة، وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه، وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب، كما سبق، ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف، لأنه لا يصدق، إلا أن يقول: بحصول الغاية، والغرض منها.

مطلب: علوم اللسان العربي
اعلم: أن أركانها أربعة، وهي: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب.
ومعرفتها: ضرورية على أهل الشريعة، لما سبق من أن مأخذ الأحكام الشرعية عربي، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة به، ويتفاوت في التأكد، بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، والظاهر: أن الأهم: هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة، ولولاه لجهل أصل الإفادة، وكان من حق علم اللغة التقديم، لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها، لم يتغير، بخلاف الإعراب، فإنه يتغير بالجملة، ولم يبق له أثر، وليس اللغة كذلك.

الباب الخامس: في لواحق المقدمة من الفوائد، وفيه: مطالب

مطلب: لزوم العلوم العربية
واعلم: أن مباحث العلوم، إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها، ومن بين العلوم العقلية، وهي في الذهن، واللغات: إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني، ولا بد في اقتناصها من ألفاظها، بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها، وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة، بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ، زال الحجاب بين المعاني والفهم، ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث، هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط، بالنسبة إلى كل لغة.
ثم إن الملة الإسلامية، لما اتسع ملكها، ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، صيروا علوهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيها الملكات، وتشوقوا إلى علوم الأمم، فنقلوها بالترجمة إلى علومهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا، وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم، دون ما سواه من الألسن لدروسها، وذهاب العناية بها، وقد ثبت أن اللغة ملكة في اللسان، والخط صناعة، ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة قلّ أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، إلا أن يكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم، كما في أصاغر أبناء العجم، وكذا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي، ولذلك ترى بعض علماء الأعاجم في دروسهم، يعدلون عن نقل المعنى من الكتب إلى قراءتها ظاهرا، يخففون بذلك عن أنفسهم مؤنة بعض الحجب، وصاحب الملكة في العبارة والخط: مستغن عن ذلك.

مطلب: أسماء العلوم
اعلم أن المشهور عند الجمهور: أن حقيقة أسماء العلوم المدونة: المسائل المخصومة، أو التصديق بها، أو الملكة الحاصلة من إدراكها مرة بعد أخرى، التي تقتدر بها على استحضارها متى شاء، واستحصالها مجهولة.
وقال السيد الشريف في (حاشية: في شرح المواقف) : إن اسم كل علم، موضوع بإزاء مفهوم إجمالي شامل له. انتهى.
ثم إنه قد يطلق أسماء العلوم على المسائل والمبادي جميعا، لكنه قد يشعر كلام بعضهم أن ذلك الإطلاق حقيقة، والراجح: أنه على سبيل التجوز، والتغليب، وإلا لربما يلزم الاختلاط بين العلمين، إذ بعض المبادي لعلم يجوز أن يكون مسألة من علم إلى آخر، فلا يتمايزان، ومما يجب التنبيه عليه: أنهم اختلفوا في أن أسماء العلوم، من أي قبيل من الأسماء؟
اختار السيد الشريف - رحمه الله تعالى -: أنها أعلام الأجناس، فان اسم كل علم كلي، يتناول أفرادا متعددة، إذ القائم منه بزيد، غير القائم منه بعمرو، شخصا.
وقال ركن الدين الخوافي: إنها أعلام شخصية، نظرا إلى أن اختلاف الأعراض باختلاف المحال في حكم العدم.
وقال العلامة الحفيد: المنقول عن المركب الإضافي لا يتعارف، كونه اسم جنس، وكثير من أسماء العلوم مركبات إضافية، وقد خطر ببالي: أنه يجوز أن يجعل وضع أسماء العلوم من قبيل وضع المضمرات، باعتبار خصوص الموضوع، وعموم الوضع، ولا غبار على هذا التوجيه، إلا أنه لم يتعارف استعمالها في الخصوصيات.

المحاكمة بين الفريقين:
وقد يقال: إنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان، وهو: العلوم الحقيقية، وتسمى: حكمية، إن جرى الباحث على مقتضى عقله، وشرعية: إن بحث على قانون الإسلام، وفيما يتعلق بالأذهان، والعبارة، وهي: العلوم الآلية المعنوية، كالمنطق، ونحوه؛ وفيما يتعلق: بالعبارة، والكتابة، وهي: العلوم الآلية اللفظية، أو الخطية، وتسمى: بالعربية، ثم إن - عدا الأول من الأقسام الأربعة - لا سبيل إلى تحصيلها، إلا الكسب بالنظر.
أما الأول: فقد يحصل بالتصفية أيضا، ثم إن الناس، منهم: الشيوخ البالغون إلى عشر الستين، فاللائق بشأنهم: طريق التصفية والانتظار، لما منحه الله - سبحانه وتعالى - من المعارف، إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر.
ومنهم: الشبان الأغبياء، فحكمهم حكم الشيوخ.
ومنهم: الشبان الأذكياء، المستعدون لفهم الحقائق فلا يخلو، إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية، فعليهم ما على الشيوخ، وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر، مع أنه أعز من الكبريت الأحمر، فعليه تقديم طريقة النظر، ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت، ليكون فائزا بنعمة باقية، لا تفنى أبدا.

مطلب: الأدبيات
واعلم: أن المقصود من علم الأدب عند أهل اللسان: ثمرته، وهي: الإجادة في فني: المنظوم، والمنثور، على أساليب العرب، فيجمعون لذلك من حفظ كلام العرب ما عساه يحصل به الملكة من: الشعر، والسجع، ومسائل من اللغة والنحو، مع ذكر بعض من أيام، والمهم من الأنساب، والأخبار العامة، والمقصود بذلك: أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب، وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم، إذا تصفحه، ثم إنهم إذا حدوا هذا الفن قالوا: هو حفظ أشعار العرب، وأخبارها، والأخذ بكل علم من طرف، يريدون من: علوم اللسان، والعلوم الشرعية أنه لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلامهم، إلا ما ذهب إليه المتأخرون، عند كلفهم بصناعة البديع بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج حينئذ إلى معرفتها.

مطلب: تعيين العلم، الذي: هو فرض عين على كل مكلف
أعني: الذي يتضمنه قوله - عليه الصلاة والسلام -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) .
واعلم: أن للعلماء اختلافا عظيما في تعيين ذلك العلم.
قال المفسرون، والمحدثون: هو علم الكتاب، والسنة.
وقال الفقهاء: هو العلم بالحلال والحرام.
وقال المتكلمون: هو العلم الذي يدرك به التوحيد، الذي هو أساس الشريعة.
وقال الصوفية: هو علم القلب، ومعرة الخواطر، لأن النية التي هي شرط للأعمال، لا تصح إلا بها.
وقال أهل الحق: هو علم المكاشفة.
والأقرب إلى التحقيق: أنه العلم الذي يشتمل عليه - قوله عليه الصلاة والسلام -: (بني الإسلام على خمس ... ) الحديث، لأنه الفرض على عامة المسلمين، وهو اختيار الشيخ: أبي طالب المكي.
وزاد عليه بعضهم: إن وجوب المباني الخمسة، إنما هو بقدر الحاجة، مثلا: من بلغ ضحوة النهار، يجب عليه أن يعرف الله - سبحانه وتعالى - بصفاته استدلالا، وأن يتعلم كلمتي الشهادة، مع فهم معناهما، وإن عاش إلى وقت الظهر، يجب أن يتعلم أحكام الطهارة والصلاة، وإن عاش إلى رمضان، يجب أن يتعلم أحكام الصوم، وإن ملك مالا يجب أن يتعلم كيفية الزكاة، وإن حصل له استطاعة الحج، يجب أن يتعلم أحكام الحج ومناسكه.
هذه هي المذاهب المشهورة، في هذا الباب، ذكرها في: (التتار خانية) .

مطلب: عدم تعين الموضوع في بعض العلوم:
ينبغي أن يعلم: أن لزوم الموضوع، والمبادي، والمسائل، على الوجه المقرر سابقا، إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية، وأما في غيرها: فقد يظهر كما في الفقه وأصوله، وقد لا يظهر إلا بتكلف، كما في بعض الأدبيات، إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن: عدة أوضاع، واصطلاحات، وتنبيهات، متعلقة بأمر واحد، بغير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع واحد، بأدلة مبنية على مقدمات.
هذه: فائدة جليلة، ذكرها العلامة: التفتازاني، في (شرح المقاصد) ، ينتفع بها في مواضع، منها: جوازان، يحال تصوير المبادي التصورية في علم على علم آخر، ومنها: جعل اللغة، والتفسير، والحديث، وأمثالها علوما إلى غير ذلك.

الخاتمة:
واعلم: أن الغرض من وضع هذا الكتاب: أن الإنسان لما كان محتاجا إلى تكميل نفسه البشرية، والتكميل: لا يتم إلا بالعلم بحقائق الأشياء، وبالعلم بكتاب الله، وسنة رسوله، وجب تعلم تلك العلوم، وما هو كالوسيلة إليها، ولزمه أولا: العلم بأنواع العلوم، ليتبين منها هذا الغرض، ثم إن العلم بأصناف الكتب في نفسها، ومرتبتها، ليكون على بصيرة من أمره، ويقايس بين العلوم والكتب، فيعلم أفضلها، وأوثقها، ويعلم حال العالم به، وحال من يدعي علما من العلوم، ويكشف دعواه، بأنه هل يخبر خبرا تفصيليا، عن موضع ذلك العلم، وغايته، ومرتبته؟ فيحسن الظن به فيما ادعاه، ويعلم حال المصنفات أيضا، ومراتبها، وجلالة قدرها، والتفاوت فيما بينها، وكثرتها، وفيه: إرشاد إلى تحصيلها، وتعريف له بما يعتمده منها، وتحذيره مما يخاف من الاغترار به، ويعلم حال المؤلفين، ووفياتهم، وأعصارهم، ولو إجمالا، فلا يقصر بالعالي في الجلالة عن درجته، ولا يرفع غيره عن مرتبته، ويستفاد منه: تشويق النفوس الزكية، إلى الكمالات الإنسانية، وتحريكها إلى حسن الاقتداء والاقتفاء، بإمرار النظر إلى آثار الأولين والآخرين، والفكر في أخبارهم، ولا يخفى أن الطباع جبلت على مشاهدة الآثار، وتلقي الأخبار، سيما الجديدة منها، فلا يمل حينئذ عين من نظر، وأُذن من خبر.
نسأل الله العفو والعافية، تاليا لنعمة الإسلام والعافية، وهو حسبي، ونعم الوكيل، والهادي إلى سواء السبيل، إنه مجيب، قريب، عليه توكلت، وإليه أنيب.

اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى    الجزء : 1  صفحة : 53
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست