اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 52
فتح:
وكل تعليم وتعلم ذهني، إنما يكون بعلم سابق في معلوم ما من عالم، لمن ليس بعالم، وقد يكون بالطبع، مستفادا من وقائع الزمان، بتردد الأذهان، ويسمى: علما تجريبيا، وقد يكون: بالبحث وإعمال الفكر، ويسمى: علما قياسيا، والعلم محصور في: التصور والتصديق، والتصور: يطلب بالأقوال الشارحة، والتصديق: يكون عن مقدمات في صور القياسات للنتائج، فقد يحصل به اليقين، وقد لا يحصل إلا إقناع، وقدموا في التعليم ما هو أقرب تناولا، ليكون سلما لغيره، وجرت سنة القدماء في التعليم مشافهة، دون كتاب، لئلا يصل علم إلى غير مستحقه، ولكثرة المشتغلين بها، فلما ضعفت الهمم، أخذوا في تدوين العلوم، وضنوا ببعضها، فاستعملوا الرمز، واختصروا من الدلالات على الالتزام، فمن عرف مقاصدهم حصل على أغراضهم.
فائدة:
ذكرها البقاعي في (حاشيته: على شرح الألفية، للزين العراقي) ، وهي أنه قال: سألت شيخنا، يعني: ابن حجر العسقلاني، عما فعل داود الطائي وأمثاله من إعدام كتبهم، ما سببه؟ فقال: لم يكونوا يرون أنه لا يجوز لأحد روايتها، لا بالإجازة، ولا بالوجادة، بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف، فرأوا أن مفسدة إتلافها أخف من مفسدة تضعيف بسببهم. انتهى.
أقول: وجوابه بالنظر إلى فن الحديث، وهو لا يقع جوابا عن إعدام: ابن أبي الحواري، وأمثاله، لأن الأول: بسبب ضعف الإسناد، والثاني: بسبب الزهد والتبتل، إلى الله - سبحانه وتعالى -، ولعل الجواب عن إعدامهم: أنه إن أخرجه عن ملكه بالهبة، والبيع، ونحوه، لا تنحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية، ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه، ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما، وذلك مشغلة بما سوى الله - سبحانه وتعالى -.
ذكر إحراق الكتب وإعدامها
ومن أجل ذلك: نقل عن بعض المشايخ: أنهم أحرقوا كتبهم، منهم: العارف بالله - سبحانه وتعالى -: أحمد بن أبي الحواري، فإنه كما ذكره أبو نعيم في (الحلية) : أنه لما فرغ من التعلم جلس للناس، فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق، فحمل كتبه إلى شط الفرات، فجلس يبكي ساعة، ثم قال: نعم الدليل كنت لي على ربي، ولكن لما ظفرت بالمدلول، الاشتغال بالدليل محال، فغسل كتبه.
وذكر ابن الملقن في ترجمته من (طبقات الأولياء) ما نصه - وقد روي نحو هذا عن سفيان الثوري -: أنه أوصى بدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء.
وقال ابن عساكر في (الكنى) من (التاريخ) : أن أبا عمرو بن العلا، كان أعلم الناس بالقرآن والعربية، وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، ثم تنسك، وأحرقها.
تذنيب: في طريق النظر، والتصفية
واعلم: أن السعادة الأبدية، لا تتم إلا بالعلم والعمل، ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر، وإن كلا منهما ثمرة الآخر، مثلا: إذا تمهر الرجل في العلم، لا مندوحة له عن العمل بموجبه، إذ لو (1/ 53) قصر فيه، لم يكن في علمه كمال، وإذا باشر الرجل العمل، وجاهد فيه، وارتاض حسبما بينوه من الشرائط، تنصب على قلبه العلوم النظرية بكاملها، فهاتان طريقتان.
الأولى منهما: طريقة الاستدلال، والثانية: طريقة المشاهدة، وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى، فيكون صاحبه مجمعا للبحرين.
فسالك طريق الحق نوعان:
أحدهما: يبتدئ من طريق العلم إلى العرفان، وهو يشبه أن يكون طريقة الخليل - عليه الصلاة والسلام -، حيث ابتدأ من الاستدلال.
والثاني: يبتدئ من الغيب، ثم ينكشف له عالم الشهادة، وهو طريق الحبيب، حيث ابتدأ بشرح الصدور، وكشف له سبحات وجهه.
فتح:
ثم إن المقصود من العلم، والتعليم، والتعلم: معرفة الله - سبحانه وتعالى -، وهي: غاية الغايات، ورأس أنواع السعادات، ويعبر عنها: بعلم اليقين، الذي يخصه الصوفية أولوا الكرامات، وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت بالأدلة، وإياك أيها المتعلم: أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صنعة غلبت على قلبك، حتى قضيت نحبك بتكراره عند النزع.
كما يحكى أن أبا طاهر الزيادي: كان يكرر مسألة: ضمان الدرك، حالة نزعه، بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلا إلى النجاة.
فتح:
واعلم: أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها، بأحد الأمور الثلاثة: الإشارة، واللفظ، والخط.
والإشارة: تتوقف على المشاهد، واللفظ: يتوقف على حضور المخاطب وسماعه، وأما الخط: فلا يتوقف على شيء، فهو أعمها نفعا، وأشرفها، وهو خاصة النوع الإنساني، فعلى المتعلم أن يجوده، ولو بنوع منه، ولا شك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل، وامتاز عن سائر الحيوان، وضبطت الأموال، وحفظت العلوم والكمال، وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان، فجبلت غرائز القوابل على قبول الكتابة والقراءة، لكن السعي لتحصيل الملكة، وهو موقوف على الأخذ، والتعلم، والتمرن، والتدرب.
فتح: واعلم: أن العلم والنظر وجودهما بالقوة في الإنسان، فيفيد صاحبها عقلا، لأن النفس الناطقة، وخروجها من القوة إلى الفعل، إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات من المحسوسات أولا، ثم ما بما يكتسب بالقوة النظرية، إلى أن يصير إدراكا بالفعل، وعقلا محضا، فيكون ذاتا روحانيا، ويستكمل حينئذ وجودها، فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر، يفيدها عقلا مزيدا، وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا، والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك، لأنها تشتمل على علوم وأنظار، إذ فيها انتقال من صور الحروف الخطية، إلى الكلمات اللفظية، ومنها إلى المعاني، فهو ينتقل من دليل إلى دليل، ويتعود النفس ذلك دائما، فتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول، وهو معنى النظر العقلي، الذي يكسب به العلوم المجهولة، فيحصل بذلك زيادة عقل، ومزيد فطنة، وهذا هو: ثمرة التعلم في الدنيا.
فتح:
اعلم: أن تكميل النفوس البشرية في قواها النظرية، والعملية، إنما يتم بالعلم بحقائق الأشياء، وما هو إليه كالوسيلة، وبه يكون القصد إلى الفضائل، والاجتناب عن الرذائل، إذ كان هو الوسيلة إلى السعادة الأبدية، ولا شيء أشنع، وأقبح من الإنسان مع ما فضله الله - سبحانه وتعالى - من النطق، وقبول تعلم الآداب والعلوم، أن يهمل نفسه، ويعريها من الفضائل، وقد حث الشارع - عليه الصلاة والسلام - على اكتسابه، حيث قال: (طلب العلم فريضة) .
وقال: (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، اطلبوا العلم ولو بالصين) .
المنظر العاشر: في التعلم، وفيه: فتوحات أيضا
فتح:
واعلم: أن الإنسان مطبوع على التعلم، لأن فكره هو سبب امتيازه، عن سائر الحيوانات، ولما كان فكره راغبا بالطبع في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، لزمه الرجوع إلى ما سبقه بعلم، فيلقن ما عنده.
ثم إن فكره يتوجه إلى واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض له لذاته، واحد بعد واحد، ويتمرن عليه حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له، فيكون علمه حينئذ بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا، ويتشوق نفوس أهل القرن الناشئ إلى تحصيله، فيفزعون إلى أهله.
فتح:
ومنه: أنه ينبغي أن لا يخالف قوله فعله، إذ لو أكذب مقاله بحاله، ينفر الناس عنه، وعن الاسترشاد به، وأكثر المقلدين: ينظرون إلى حال القائل، والمحقق: الذي لا ينظر إلى القائل، فهو نادر، فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه، إذ لا بد للعالم من الورع ليكون علمه أنفع، وفوائده أكثر، وأن يكظم غيظه عند التعليم، ولا يخلطه بهزل، فيقسو قلبه، ولا يضحك فيه، ولا يلعب، ولا يبالي إذا لم يقبل قوله، ولا بأس بأن يمتحن فَهْمُ المتعلم، وأن لا يجادل في العلم، ولا يماري في الحق، فإنه يفتح باب الضلال، وأن لا يدخل علما في علم، لا في تعليم، ولا في مناظرة، فإن ذلك مشوش، وكثيرا ما غلط جالينوس بهذا السبب، وأن يحث الصغار على التعلم، سيما الحفظ، وأن يذكر لهم ما يحتمله فهمهم، وإن كان الطلاب مبتدئين لا يلقي عليهم المشكلات، وإن كانوا منتهين، لا يتكلم في الواضحات، ولا يجيب تعنتا في سؤاله، ولا ما لا يلقى عليه من الأغلوطات، وأن ينظر في حال الطالب، إن كان له زيادة فهم، بحيث يقدر على حل المشكلات، وكشف المعضلات، يهتم لتعليمه أشد الاهتمام، وإلا فيعلمه قدر ما يعرف الفرائض، والسنن، ثم يأمره بالاشتغال بالاكتساب، ونوافل الطاعات، لكن يصبر في امتحان ذهنه، مقدار ثلاث سنين، وإن سئل عما يشك فيه يقول: لا أدري، فإن لا أدري: نصف العلم.
المنظر التاسع: فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم
قال الفقيه، أبو الليث - رحمه الله تعالى -: يراد من العلماء عشرة أشياء: الخشية، والنصيحة، والشفقة، والاحتمال، والصبر، والحلم، والتواضع، والعفة عن أموال الناس، والدوام على النظر في الكتب، وقلة الحجاب، وأن لا ينازع أحدا ولا يخاصمه، وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه، لا بقهر عدوه.
قيل: من أراد أن يرغم أنف عدوه، فليحصل العلم.
وأن لا يترفه في المطعم والملبس، ولا يتجمل بالأثاث والمسكن، بل يؤثر الاقتصاد في جمع الأمور، ويتشبه بالسلف الصالح، وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله، ازداد قربه من الله - سبحانه وتعالى -، لأن التزين بالمباح، وإن لم يكن حراما، لكن الخوض فيه يوجب الأنس به، حتى يشق تركه، فالحزم: اجتناب ذلك، لأن من خاض في الدنيا، لا يسلم منها البتة، مع أنها مزرعة الآخرة، ففيها الخير النافع، والسم الناقع.
ففي تمييز الأول من الثاني أحوال:
منها: معرفة رتبة المال، فنعم الصالح منه للصالح، إذا جعله خادما، لا مخدوما، وهو مطلوب لتقوية البدن بالمطاعم، والملابس، والتقوية لكسب العلم، والمعارف، الذي هو القصد الأقصى.
ومنها: مراعاة جهة الدخل، فمن قدر على كسب الحلال الطيب، فليترك المشتبه، وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة، وإن قدر عليه، لكن بالتعب، واستغراق الوقت، فعلى العامل العامي أن يختار التعب، وإن كان من الأهل، فإن كان ما فاته من العلم والحال، أكثر من الثواب الحاصل في طلب الحلال، فله أن يختار الحلال الغير طيب، كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر، لكن يخفيه من الجاهل مهما أمكن، كيلا يحرك سلسلة الضلال.
ومنها: المقدار المأخوذ منه، وهو قدر الحاجة في المسكن، والمطعم، والملبس، والمنكح، إن جاوز من الأدنى، لا يجوز التجاوز عن الوسط.
ومنها: الخروج، والإنفاق، فالمحمود منه: الصدقة المفروضة، والإنفاق على العيال، وقد اختلف في الأخذ والإنفاق على الوجه المشروع أولى؟ أم تركه رأسا مع الإنفاق؟ على أن الإقبال على الدنيا بالكلية مذموم، فالمقبلون على الآخرة، والصارفون للدنيا في محله، فهم الأفضلون من التارك بالكلية، ومنهم: عامة الأنبياء - عليهم السلام -.
ومنها: أن تكون نيته صالحة في الأخذ، والإنفاق، فينوي بالأخذ أن يستعين به على العبادة، ويأكل ليتقوى به على العبادة.
اسم الکتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون المؤلف : حاجي خليفة، مصطفى الجزء : 1 صفحة : 52