اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 313
بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكَوِّن أمة إسلامية يدخلها الناس بصرف النظر عن قبائلهم وأجناسهم، وبهذا بدأ الدور الأساسي من الدعوة، واتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شخصية سياسية إلى جانب شخصيته الدينية. وكان نظام الدولة التي أقامها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة من نوع أصيل جديد، إذ كان يجمع بين الشورى والحكم المطلق، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى] . وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران] . وهذه الآية على قصرها تجمع بين الشورى والاستقلال بالرأي في الحكم في آنٍ واحد. كما كان في نفس الوقت يجمع بين حكم رجال الدين والاشتراكية. كان ذلك النظام في إطاره دينيًّا مطلقًا يرتكز على الأوامر والأحكام العامة المنَزَّلة، ولكنه في تفاصيله وتطبيق أحكامه اشتراكي شورى. وهذه الدولة فذة في تاريخ البشرية؛ لأنها -بالرغم من قيامها في الأصل على أسس دينية- أقرت مبدأين لا وجود لهما إلا في دولة غير دينية، وأول هذين المبدأين هو: حرية الأديان، وهي حرية لا تقرها الدولة الإسلامية وتسمح بها فحسب؛ بل إنها تتعهد برعايتها. وثانيهما هو: مبدأ تعريف فكرة الوطن والدولة في أوسع معانيها تسامحًا وإنسانية، وهو مبدأ يكفل المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعقائدهم.
وقد برزت عبقرية النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدور المدني، وظهرت المقدرة الفائقة في التنظيم والاحتياط للمستقبل، فقد كانت مهمته في مكة هي الدعوة إلى الدين الجديد، وإمداد المسلمين بالثبات والصبر واليقين، أما في المدينة فلم يكن عليه أن يكتفي بتبليغ الوحي الذي ينزل عليه، بل كان عليه أن ينظم الحياة في المدينة نفسها، فقد أصبح زعيم جماعة سياسية، وقد أدرك هو هذا الموقف من أول الأمر، وحتى قبل هجرته إلى المدينة[1]، وأخذ يعالج الأمور على هذا الأساس، فسكان المدينة الأصليون هم الأوس والخزرج -وهم قبيلتان قد وقع الشر بينهما كما رأينا من قبل- واليهود وهم أحياء تحالف بعضها مع الأوس وتحالف بعضها مع الخزرج. وهذه الجماعة الأصلية من أهل المدينة في حاجة إلى توفيق حتى يمكن أن تعيش معيشة [1] قال النفر من الخزرج الذين لقوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الموسم يصفون قومهم بأنهم في حالة فرقة وشر: " فإن يجمعهم الله عليه -الإسلام- فلا رجل أعز منك" "2/ 38".
اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 313