اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 168
كانت شهور الصيف مانعة للقتال بطبيعتها، وإذا كانت الأشهر الحرم مانعة للقتال كذلك، فإنه يمكن أن يؤلف من هذه الشهور سلسلة مؤلفة من سبعة أشهر يوقف فيها القتال، وإذا كان لا بد من قتال وطلب ثارات بسبب طبيعة الحياة البدوية وعصبيات العرب، ففي الأشهر الباقية من السنة كفاية للتنفيس عن ثورة الغضب والعصبية، على أن في انقطاع الناس عن القتال سبعة أشهر مجالًا طيبًا لحل ما يمكن حله من المشاكل المعقدة وبخاصة في موسم الحج وأسواقه ومجتمعاته.
لكن الأشهر العربية القمرية تدور مع الزمن وتصبح أشهر الشتاء منها أشهر صيف، وأشهر الصيف أشهر شتاء، فابتدعت هذه البدعة لمسايرة مواسم السنة والتوفيق بين حساب السنة القمرية والسنة الشمسية حتى تظل أشهر الحج وأسواقه متصلة بأشهر الصيف وتظل الشهور التي يتوقف فيها القتال مستمرة مستقرة.
وإذا كانت بعض الروايات ذكرت أن النسيء كان يجري أحيانًا بطلب من الناس ليتسنى لهم متابعة حروب بدءوها أو طلب ثارات [1] لهم، فإن ذلك لم يكن الأصل في الموضوع؛ فإن بدعة النسيء كانت مقررة وكان يتولاها بيوت من العرب معروفة يتوارثونها، وكانت لها من الأهمية والمكانة ما يوجب الفخر بها والاعتزاز بتوليها، وكانت تقليدًا متبعًا يعلن للناس في موسم الحج من كل عام [2]، على أنه يجب ان نضع في الاعتبار أن حروب القبائل لم تكن حروبًا متصلة؛ وإنما كانت عبارة عن أيام بين القبائل تقع على فترات قد تكون متباعدة، فحرب البسوس بين بكر وتغلب التي قالوا: إنها استمرت أربعين سنة، لم تقع فيها المصادمات إلا في سبعة أيام متفرقة على طول هذه المدة[3]؛ ولذلك فإنه لا يمكن مسايرة هذه الروايات التي قيلت عن بدعة النسيء، وإنما يجب أن تكون قد وضعت لشيء أهم وأعم وأنفع للناس من مجرد الجري وراء العصبية والثارات. وإذا كان قد أسيء استعمال هذه البدعة مؤخرًا مما استدعى أن يهاجمها القرآن بسبب سوء استعمال الناس لها؛ حتى لا يتجرأ الناس على [1] ابن هشام 1/ 43- 45 "انظر الحاشية ص 44 وفيها تعليل مزدوج للنسيء أي أنه كان للقتال أحيانًا ولمسايرة المواسم أحيانًا". [2] ابن هشام 4/ 45- 46. [3] ابن الأثير 1/ 323. النويري 15/ 400- 405.
اسم الکتاب : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : أحمد إبراهيم الشريف الجزء : 1 صفحة : 168