ثم من جاء بعدهم أمثال: موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وأبو معشر[1] السندي، وشرحبيل[2] بن سعد، والأربعة من تلاميذ الزهري، ثم محمد بن عمر الواقدي، ومحمد بن سعد، ثم المؤرخ العظيم الإمام الطبري، وغيرهم من أئمة السير والمغازي القدامى الذين هم الأصل في هذا العلم.
يتبيّن للناظر في تآليفهم العلمية أنهم يخصون لفظ السيرة بالغزوات والسرايا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما يقع فيها من قضايا متعددة الجوانب، لذلك قال الفيومي: "وغالب اسم السيرة في ألسنة الفقهاء على المغازي"3.
وهذا المدلول الاصطلاحي استمر في الأدوار التاريخية المتلاحقة فإذا أطلق هذا اللفظ انصرف الذهن إلى الغزوات والسرايا وما له صلة بها قبل المعركة وبعدها.
وهناك مصادر أساسية جعلت السيرة بهذا المدلول جزءاً من موضوعاتها وبحوثها، مثل: "دلائل النبوة" للبيهقي، فقد ذكر مباحث السيرة في ثنايا عرضه لما يتصل بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وممّن جرى على هذا المنوال من المتأخرين: ابن سيد[4] الناس في كتابه "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير"، وأبو زكريا يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه "بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص السير والمعجزات والشمائل"، وشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني في كتابه "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية"، فهذه الكتب جمعت بين الشمائل، وهي الصفات الخُلقية[5] والخلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبين الدلائل وهي البراهين على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وبين السرايا والمغازي التي تمت في حياته - صلى الله عليه وسلم - وهذا الصنيع أقرب إلى مدلول لفظ السيرة من الوجهة اللغوية، لأن السيرة في اللغة العربية تدور على معنيين: [1] أبو معشر السندي: هو نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، مولى بني هاشم، مشهور بكنيته، توفي سنة (170هـ) . (التقريب 2/298) . [2] شرحبيل بن سعد، أبو سعد المدني، مولى الأنصار (ت123هـ) (التقريب 1/348) .
(المصباح المنير 1/353) . [4] هو أبو الفتح اليعمري محمد بن محمد. [5] الخلق- بضم الخاء واللام وسكونهما-: الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها. والخلق- بفتح الخاء وسكون اللام-: صورة الإنسان الظاهرة وأوصافها ومعانيها. (النهاية لابن الأثير 2/70) .