يكد يرى ان وحشية المكيين آخذة في الضراوة يوما بعد يوم حتى نصح لهم بالشخوص إلى موطن آمن. لقد آثر ان يتحدى اسوأ عاصفة من عواصف المعارضة المكية على رؤية اصحابه يعذّبون بمثل تلك القسوة البالغة. إنه لم يستشعر أيما قلق على نفسه، ولم يخامره أيما خوف من عدوّه المغضب المهتاج. وهكذا أشار عليهم ان يفزعوا إلى الحبشة قائلا لهم: «إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي ارض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.» وكان اهل الحبشة وملكهم الملقب بالنجاشي نصارى.
وهكذا استعد أول فريق من المهاجرين، وعدّتهم احد عشر، للابحار إلى الحبشة، وقد اصطحب اربعة منهم زوجاتهم، وفي جملتهم عثمان وزوجه، رقيّة، بنت الرسول. وفي شهر رجب من السنة الخامسة للدعوة، فصل القوم من مكة، وبعضهم راكب وبعضهم راجل. حتى إذا بلغوا الثغر أبحروا على عجل، مغادرين شواطئ وطنهم الجميل التماسا للسلامة في أرض أخرى. وما ان تسامعت قريش بارتحالهم حتى وجّهت رجالها على جناح السرعة ابتغاء صدّهم عن سبيلهم. بيد أن المراكب- ويا لخيبة قريش! - كانت قد أقلعت، فتعيّن على مطارديهم ان يرجعوا بخفّي حنين. ولكن هذا لم يزد القرشيين إلا غيظا على غيظ. لقد كانوا يحرصون على ان لا يجد الاسلام موطئ قدم في أيما موطن آخر. فعقدوا العزم، آخر الأمر، على ان يوجهوا إلى النجاشي وفدا يسأله أن لا يسبغ على المسلمين حمايته وان يسلمهم إلى المكيين. واختير عبد الله بن ابي ربيعة وعمرو بن العاص لهذه السفارة، فمضيا إلى الحبشة ومعهما هدايا نفيسة. فكانت اولى الخطوات التي قاما بها لدن بلوغهما أرض الأحباش أن عمدا إلى التأثير في مشاعر الطبقة الاكليركية. لقد قالا لهم ان المسلمين ابتدعوا دينا معاديا للنصرانية أيضا، وعزّزا استثارتهما لأحقاد تلك الطبقة الدينية