فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ.» * (أي إلى مكة) تعزية أخرى تلقّاها الرسول خلال هجرته إلى المدينة. والواقع، ان الهجرة لم تكن شيئا غير متوقّع عنده. فقد أعلم منذ عهد بعيد أنه سوف يضطر إلى مغادرة مكة، وان نجم الاسلام سوف يبزغ من موطن آخر. والقرآن الكريم حافل بالنبوآت التي تفيد هذا المعنى.
فلحظة كانت عاصفة المقاومة في ذروة قوّتها، ومحنة الرسول في أوج قسوتها، نزل الوحي بأن الاسلام لا بدّ أن ينتصر آخر الأمر، وحتى ولو افرغ اعداؤه كامل قواهم في قتاله. والحق ان قصص الأنبياء السابقين، والمعارضة التي جابهوها، ونجاحهم النهائي، كما رواها القرآن الكريم، إنما نزّلت في هذه الفترة من حياة الرسول كضرب من العزاء لتثبيته في وجه ضروب البلاء التي قاساها. وقبيل الهجرة رأى في ما يراه النائم انه هاجر إلى موطن غنيّ خصب. ولم يكن ذلك الموطن غير المدينة، التي لا تزال إلى اليوم شهيرة بجنائنها.
إن السابقين من المسلمين لم يغفلوا عن ادراك اثر الهجرة في انتصار الاسلام؛ لقد علموا علم اليقين أن ذلك الانتصار كان رهنا بتلك الحادثة الحاسمة. وهكذا اعتبروها مولدا للاسلام، فاذا بالتقويم الاسلامي- كما سبقت منا الملاحظة- يبدأ لا من النداء الالهي الأول الذي تلقّاه الرسول في غار حراء، ولكن من هجرته إلى المدينة. من أجل ذلك يشير القرآن الكريم إلى هذه الحادثة بوصفها شاهدا على ان يد الله المسعفة كانت من وراء الاسلام، وانها كانت أيضا ضمانا لانتصاره النهائي.
فهو يقول ما تفسيره: إن لم ينصره المكيون فقد نصره الله في محنته العظمى عندما تعيّن عليه أن يغادر مكة وليس معه غير رفيق واحد؛ ولقد تعيّن على الرفيقين أن يفزعا إلى غار، ولكنهما لم ينعما بالأمن حتى في ذلك الغار. كان المطاردون قد اقتصّوا آثارهم، فانتهوا إلى فم
(*) السورة 28، الآية 85.