اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 389
فإذا وقف معه حسب عليه عملاً له وإن قل وكان ذلك خاتمته وكذلك ما عمل من خير أعيد ذكره ومشاهدته عليه فإن عقد عليه بقلبه أو أحبّ وقف معه فحسب عملاً له وكان ذلك حسن خاتمته.
وقال بعض هذه الطائفة في قول الله تعالى: (خَلَقَ المَوْتَ وَالَحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) الملك: 2 قال: يبلوكم بتقليب القلوب في حال الحياة بخواطر الذنوب وفي حال الموت بإلحاد عن التوحيد، فمن خرجت روحه على التوحيد وجاوزت البلاوي كلها إلى المبلى فهو المؤمن وذلك هوالبلاء الحسن، كما قال الله تعالى: (وَلِىُبْلي المُؤْمِنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَناً) الأنفال: 17 فهذه المعاني من العلوم أوجبت خوف الخائفين من علم الله تعالى فيهم فلم ينظروا معها إلى محاسن أعمالهم لحقيقة معرفتهم بربهم؛ وهذا الخوف هو الثواب لعلمهم بما يعلمون، فلما سلموا من مطالبة بما يعملون وصحوا على العلم ظهر لهم خوف علم الله تعالى فيهم نعمة من الله تعالى عليهم، فكان ذلك مقامًا لهم، كما قال الله تعالى: (قَالَ رجُلانِ مِنَ الّذينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا) المائدة: 23 قيل بالخوف.
والمقام الآخر لأصحاب اليمين دون هولاء؛ خوف الجنايات والاكتساب، وخوف الوعيد وسرّ العقاب، وخوف التقصير في الأمر وخوف مجاوزة الحدّ وخوف سلب المزيد، وخوف حجاب اليقظة بالغفلة، وخوف حدوث الفترة بعد الاجتهاد عن المعاملة، وخوف وهن العزم بعد القوّة وخوف نكث العهد بنقض التوبة، وخوف الوقوع في الإبتلاء بالسبب الذي وقعت منه التوبة، وخوف عود الاعوجاج عن الاستقامة، وخوف العادة بالشهوة وخوف الحور بعد الكور؛ وهو الرجوع عن الحجة إلى طريق الهوى وحرث الدنيا وخوف اطلاع الله تعالى عليهم عندما سلف من ذنوبهم ونظره إلىهم على قبيح فعلهم فيعرض عنهم ويمقتهم وهذه كلها مخاوف وطرقات لأهل المعارف وبعضها أعلى من بعض وبعضهم أشد خوفًا من بعض، ويقال: إن العرش جوهرة يتلألأ ملء الكون فلا يكون للعبد وجد في حال من الأحوال إلا طبع مثاله في العرض على الصورة التي يكون عليها العبد فإذا كان يوم القيامة ووقف للمحاسبة أظهرت له صورته من العرش فرأى نفسه على هيئته التي كان في الدنيا فذكر فعله بمشاهدته نفسه فيأخذه من الحياء والرعب ما يجلّ وصفه.
ويقال: إن الله سبحانه إذا أعطى عبدًا معرفة ثم لم يعامله بها لم يسلبه إياها، بل أبقاها عليه ليحاسبه على مقدارها، ولكن يرفع عنه البركة ويقطع عنه المزيد.
وقد ذم الله تعالى عبدًا أوجد له نعمة استعمله بها صالحًا بعد أن كان قد ابتلاه بهواه ففخر الآن بعمله ونسي ما قدمت يداه، ولم يخف أن يعيده فيما قد كان جناه في قوله تبارك وتعالى: (ولَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) هود: 10
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 389