اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 355
الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقّي النّعم بحسن القبول وتكثير تصغيرها وتعظيم حقيرها من الشكر، لأن طائفة هلكت باستصغار الأشياء واستحقار وجود المنافع بها جهلاً بحكمة الله تعالى واستصغار النعمة فكان ذلك كفراً بالنّعم، ومن الناس من يقول إن الصبر أفضل من الشكر وليس يمكن التفضيل بينهما عند أهل التحصيل من قبل أن الشكر مقام لجملة من المؤمنين والترجيح بين جماعة على جماعة لا يصحّ من قبل تفاوتهم في اليقين في المشاهدات لأن بعض الصابرين أفضل من بعض الشاكرين لفضل معرفته وحسن صبره، وخصوص الشاكرين أفضل من عموم الصابرين لحسن يقينه وعلوّ مشاهدته، ولكن تفضيل ذلك من طريق الأحوال والمقامات أنا نقول: والله أعلم أن الصبر عن النعيم أفضل لأن فيه الزهد والخوف؛ وهما أعلى المقامات وأن الشكر على المكاره أفضل لأن فيه البلاء والرضا، وأن الصبر على الشدائد والضرّاء أفضل من الشكر على النّعم والسرّاء من قبل أنه أشقّ على النفس وأن الصبر مع حال الغنى والمقدرة أن يعصي بذلك أفضل من الشكر على النّعم من قبل أن الصبر عن المعاصي بالنّعم أفضل من الطاعة بها لمن جاهد نفسه فيها، فإذا شكر على ما يصبر عليه فقد صار البلاء عنده نعمة، وهذا أفضل لأنها مشاهدة المقربين، وإذا صبر عمّا يشكر عليه من النّعم كان أفضل لأنها حال المجاهدة.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل يعني الأقرب شبهاً بنا فالأقرب، فرفع أهل البلاء إليه ووصف نفسه به وجعلهم الأمثل فالأمثل منه فمن كان برسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمثل كان هو الأفضل، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاكراً على شدة بلائه كذلك الشاكر من الصابرين يكون أفضل لشكره على البلاء إذ هو الأقرب والأمثل بالأنبياء، وكلّ مقام من مقامات المقرّبين يحتاج إلى صبر وشكر، وأحدهما لا يتمّ إلا بالآخر لأن الصبر يحتاج إلى شكر عليه ليكمل، والشكر يحتاج إلى صبر عليه ليستوجب المزيد، وقد قرن الله تعالى بينهما ووصف المؤمنين بهما فقال: (إنَّ فِي ذَلِكَ لأيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لقمان: 31 فذكرالشكر بلفظ المبالغة في الوصف على وزن فعول، كما ذكرالصبر على وزن فعّال وهو وصف المبالغة أيضاً، ولذلك اقتسما الإيمان نصفين، كما جاء في الخبر: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ لأن اليقين أصلهما وهما ثمرتاه عنه يوجدان لأن الشاكر أيقن بالنعمة أنها من المنعم وأيقن بإنجاز ما وعده من المزيد فشكر كما أيقن الصابر بمسّه بالبلاء لأنه هو المبتلي وأيقن بثواب المبلي وحسن ثنائه على الصابرين فصبر فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم؛ فهما حالا الموقن إذ لا يخلو في أدنى وقت من أحد اثنين؛ بليّة وتحية، إذ في كل شيء له آية فحاله في البليّة الصبر، وحاله في التحية الشكر، والله يحب الصابرين
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 355