اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 335
وصفها من شهوة مقتصدة لتسكن نفوسهم بذلك في حبسها عن المحرّمات وتنقطع شهوتها عمّا وراء ذلك من الموبقات فبهذا تطمئن نفوس الضعفاء، وقد أختلف الناس في الصبر والشكر أيّهما أفضل وليس يمكن الترجيح بين مقامين لأن في كل مقام طبقة متفاوتين، والمحققون من أهل المعرفة يقولون إنه لا يجتمع عبدان في مقام بالسواء بل لا بدّ من أن يكون أحدهما أعلى بعلم أو عمل أو وجد أو مشاهدة وإن كان الصواب والقصد والأصل واحداً وأعلى التفاوت مشاهدات الوجه.
وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَديثاً) النساء: 87 ولكل وجهة هو موليها، وقال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ يِمَنْ هُوَ أَهْدى سبيلاً) الإسراء: 84، قيل: أقصد وأقرب طريقاً، وظاهر الكتاب والسنّة يدلان على تفضيل الصبر لقوله تعالى: (يُؤْتَون أْجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) القصص: 54 فالشاكر يؤتى أجره مرة فأشبه مقام الصبر مقام الخوف وأشبه مقام الشكر مقام الرجاء، وقد قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن: 46، وقد اتفق أهل المعرفة على تفضيل الخوف على الرجاء من حيث اتفقوا على فضل العلم على العمل، فالصبر حال من مقام الخوف فقرب حال الصابر في الفضل من مقامه والشكر حال من مقام الرجاء كذلك يقرب حال الشاكر من مقامه ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخبر الذي ذكرناه من قبل: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته وذكر الحديث المتقدم فقرن الصبر باليقين الذي لا شيء أعزّ منه ولا أجلّ وارتفاع الأعمال وعلوّ اليقين به، وفي مناجاة أيوب عليه السلام: إن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه: يا أيوب إني آليت على نفسي لا نشرت للصابرين ديوان توبيخ ولا نظروا إلى حد الصراط ولا أروعهم نقص الميزان دارهم دار السلام.
بيان آخر من تفضيل الصبر
الصبر: حال البلاء، والشكر: حال النعمة والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق لقول الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر: 10، فالشاكر يوفي أجره بحساب لأن إنما تحقيق للوصف ونفي ما عداه.
بيان آخر من فضل الصبر
قد رفع علي كرّم الله وجهه الصبر على أربع مقامات اليقين وجعلها دعائمه التي بها يستبين وجعله فيه فوقها فقال في حديثه الطويل الذي وصف فيه شعب الإيمان: والصبر على أربع دعائم: على الشوق، والشفقة، والزهد، والترقب، فمن أشفق من النار رجع عن المحرّمات، ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، فجعل هذه المقامات أركان الصبر لأنها توجد عنه وتحتاج إليه في جميعها وجعل الزهد أحد أركانه، وقد جعل الله تعالى
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 335