اسم الکتاب : صيد الخاطر المؤلف : ابن الجوزي الجزء : 1 صفحة : 300
من غير صدق شهوة وقلق؛ لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع، والعزب إذا وجد امرأة، ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام، ولذة الأمن قد حرمها الأمراء، فلذتهم ناقصة، وحسابهم زائد.
964- والله، ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغًا من اللذات ما لم يبلغ غيره؛ إلا العلماء المخلصين؛ كالحسن وسفيان وأحمد، والعباد المحققين، كمعروف؛ فإن لذة العلم تزيد على كل لذة، وأما ضرهم إذا جاعوا، أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم، وكذلك لذة الخلوة والتعبد.
965- فهذا معروف، كان منفردًا بربه، طيب العيش معه، لذيذ الخلوة به، ثم قد مات منذ نحو أربع مائة سنة، فما يخلو أن يهدى إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن! وأقله من يقف على قبره فيقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ... } ويهديها له، والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة، هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف! وكذلك قبور العلماء المحققين.
966- ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء، أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها: فقال سفيان بن عيينة: منذ أخذت من مال فلان الأمير، منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن. وهذا أبو يوسف القاضي[1] لا يزور قبره اثنان. فالصبر عن مخالطة الأمراء -وإن أوجب ضيق العيش من وجه- يحصل طيب العيش من جهات، ومع التخليط لا يحصل مقصودًا، فمن عزم جزم.
967- كان أبو الحسن القزويني[2] لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء السلطان، فيقعد لانتظاره ليسلم عليه، ومد النفس[3] في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف. [1] يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي "113-182هـ": صاحب أبي حنيفة وتلميذه، من حفاظ الحديث، ولي القضاء ببغداد، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله. [2] علي بن عمر، أبو الحسن القزويني، زاهد، من علماء الشافعية "360-442هـ" ويقال له: الحربي: نسبة إلى باب حرب، محلة ببغداد. [3] مد النفس: الإطالة.
اسم الکتاب : صيد الخاطر المؤلف : ابن الجوزي الجزء : 1 صفحة : 300