اسم الکتاب : صيد الخاطر المؤلف : ابن الجوزي الجزء : 1 صفحة : 111
المعاش، فيحتاجون إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما يكفي، فيحتاجون إلى التعرض بالإذلال! فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين: أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال. والثاني: نفع أولئك بثوابهم.
301- ثم أمعنت الفكر، فتلمحت نكتةً لطيفةً، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك، لم تساكنها بالقلب، ونبت[1] عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء شبهًا بها مزيلة عليها الكلاب، أو غائطًا[2] يؤتى لضرورة، فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار؛ لم يكن القلب بها متعلق متمكن، فتهون حينئذٍ. [1] نبت: بعدت. [2] الغائط: المنخفض من الأرض يقصد لقضاء الحاجة.
57- فصل: الشرع فيه الرخصة وفيه العزيمة
302- ما زال جماعة من المتزهدين يزرون[1] على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات، والذي يحملهم على هذا الجهل، فلو كان عندهم فضل علم، ما عابوهم، وهذا؛ لأن الطباع لا تتساوى؛ فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو، غير أن لنا ضابطًا -هو الشرع- فيه الرخصة، وفيه العزيمة، فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط، ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها.
303 ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى، فتنبت[2] القلوب من خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه؛ فوجب التلطف بالأجسام حفظًا لقوة الراحلة؛ ولأن آلة العلم والحفظ القلب والفكر، فإذا رفهت الآلة، جاد العمل.
وهذا أمر لا يعلم إلا بالعلم، فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا، وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان، وإنضاء[3] الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني [1] يزرون: يعيبون. [2] تنبت: تنقطع. [3] إنقضاء الرواحل: إتعاب وإهزال الإبل التي تتخذ السفر.
اسم الکتاب : صيد الخاطر المؤلف : ابن الجوزي الجزء : 1 صفحة : 111