responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 262
وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ يَدْخُلَانِ الْأَخْبَارَ الْمَاضِيَةَ، كَمَا أَنَّ الْوَفَاءَ وَالْخُلْفَ يَدْخُلَانِ الْمَوَاعِيدَ الْمُسْتَقْبَلَةَ. فَالصِّدْقُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَوَاعٍ. فَدَوَاعِي الصِّدْقِ لَازِمَةٌ، وَدَوَاعِي الْكَذِبِ عَارِضَةٌ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلٌ مُوجِبٌ وَشَرْعٌ مُؤَكَّدٌ، فَالْكَذِبُ يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ وَيَصُدُّ عَنْهُ الشَّرْعُ.
وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَسْتَفِيضَ الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ حَتَّى تَصِيرَ مُتَوَاتِرَةً، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَفِيضَ الْأَخْبَارُ الْكَاذِبَةُ؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَ النَّاسِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ لِاتِّفَاقِ الدَّوَاعِي، فَدَوَاعِي الصِّدْقِ يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ عَلَيْهَا، حَتَّى إذَا تَلَقَّوْا خَبَرًا، وَكَانُوا عَدَدًا يَنْتَفِي عَنْ مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةُ، وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَيْهِ نَافِعَةٌ، وَاتِّفَاقُ النَّاسِ فِي الدَّوَاعِي النَّافِعَةِ مُمْكِنٌ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ مُوَاطَأَةُ مِثْلِهِمْ، عَلَى نَقْلِ خَبَرٍ يَكُونُ كَذِبًا؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَيْهِ غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَتْ ضَارَّةً. وَلَيْسَ فِي جَارِي الْعَادَةِ أَنْ يَتَّفِقَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ عَلَى دَوَاعٍ غَيْرِ نَافِعَةٍ. وَلِذَلِكَ جَازَ اتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى الصِّدْقِ؛ لِجَوَازِ اتِّفَاقِ دَوَاعِيهِمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْكَذِبِ لِامْتِنَاعِ اتِّفَاقِ دَوَاعِيهِمْ. وَإِذَا كَانَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ دَوَاعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا سَنَحَ بِهِ الْخَاطِرُ مِنْ دَوَاعِيهِمَا.
أَمَّا دَوَاعِي الصِّدْقِ فَمِنْهَا: الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِقُبْحِ الْكَذِبِ، لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَجْلِبْ نَفْعًا وَلَمْ يَدْفَعْ ضَرَرًا. وَالْعَقْلُ يَدْعُو إلَى فِعْلِ مَا كَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَيَمْنَعُ مِنْ إتْيَانِ مَا كَانَ مُسْتَقْبَحًا. وَلَيْسَ مَا اُسْتُحْسِنَ مِنْ مُبَالَغَاتِ الشُّعَرَاءِ، حَتَّى صَارَ كَذِبًا صُرَاحًا، اسْتِحْسَانًا لِلْكَذِبِ فِي الْعَقْلِ كَاَلَّذِي أَنَشَدَنِيهِ الْأَزْدِيُّ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
تَوَهَّمَهُ فِكْرِي فَأَصْبَحَ خَدُّهُ ... وَفِيهِ مَكَانُ الْوَهْمِ مِنْ فِكْرَتِي أَثَرُ
وَصَافَحَهُ كَفِّي فَآلَمَ كَفَّهُ ... فَمِنْ لَمْسِ كَفِي فِي أَنَامِلِهِ عَقْرُ
وَمَرَّ بِقَلْبِي خَاطِرًا فَجَرَحْتُهُ ... وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ يَجْرَحُهُ الْفِكْرُ
وَكَقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ وَإِنْ كَانَ دُونَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ:
تَقُولُ وَقَدْ كَتَبْتُ دَقِيقَ خَطِّي ... إلَيْهَا: لِمَ تَجَنَّبْتَ الْجَلِيلَا

اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 262
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست