responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 256
كَانَ الْحِلْمُ كُلُّهُ فَضْلًا. وَإِنْ عَرِيَ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانَ ذُلًّا وَلَمْ يَكُنْ حِلْمًا، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْحِلْمِ أَنَّهُ ضَبْطُ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ، فَإِذَا فَقَدَ الْغَضَبَ لِسَمَاعِ مَا يُغْضِبُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَقِلَّةِ الْحَمِيَّةِ.
وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ: ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: لَا يُعْرَفُ الْجَوَادُ إلَّا فِي الْعُسْرَةِ، وَالشُّجَاعُ إلَّا فِي الْحَرْبِ، وَالْحَلِيمُ إلَّا فِي الْغَضَبِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَتْ الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الرِّضَى ... إنَّمَا الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الْغَضَبِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَنْ يَدَّعِي الْحِلْمَ أَغْضِبْهُ لِتَعْرِفَهُ ... لَا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إلَّا سَاعَةَ الْغَضَبِ
وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
وَلَا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَلِيمٌ إذَا مَا أَوْرَدَ الْأَمْرَ أَصْدَرَا
فَلَمْ يُنْكِرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الْإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ النَّفْسِ الشَّجَاعَةَ، وَالْأَنَفَةَ، وَالْحَمِيَّةَ، وَالْغَيْرَةَ، وَالدِّفَاعَ، وَالْأَخْذَ بِالثَّأْرِ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ. فَإِذَا عَدِمَهَا الْإِنْسَانُ هَانَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ، وَلَا لِوُفُورِ حِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ.
وَقَدْ قَالَ الْمَنْصُورُ: إذَا كَانَ الْحِلْمُ مَفْسَدَةً كَانَ الْعَفْوُ مَعْجَزَةً. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعَفْوُ يُفْسِدُ مِنْ اللَّئِيمِ بِقَدْرِ إصْلَاحِهِ مِنْ الْكَرِيمِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَكْرِمُوا سُفَهَاءَكُمْ فَإِنَّهُمْ يَقُونَكُمْ الْعَارَ وَالشَّنَارَ. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا قَلَّ سُفَهَاءُ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ:
وَالْحَرْبُ تَرْكَبُ رَأْسَهَا فِي مَشْهَدٍ ... عَدْلُ السَّفِيهِ بِهِ بِأَلْفِ حَلِيمِ
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إغْرَاءٌ بِتَحَكُّمِ الْغَضَبِ وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ عِنْدَ حُدُوثِ مَا يُغْضِبُ، فَيَكْسِبُ بِالِانْقِيَادِ لِلْغَضَبِ مِنْ الرَّذَائِلِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْلُبُهُ عَدَمُ الْغَضَبِ

اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 256
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست