اسم الکتاب : إحياء علوم الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 87
ألست بربكم قالوا بلى فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص إلى مقر وإلى جاحد ولذلك قال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم فطرة الله التي فطر الناس عليها أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك
ثم لما كان الإيمان مركوزا في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى قسمين إلى من أعرض فنسي وهم الكفار وإلى من أجال خاطره فتذكر فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها
ولذلك قال عز وجل لعلهم يتذكرون وليتذكر أولوا الألباب واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد فكأن التذكر ضربان أحدهما
أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه لكن غابت بعد الوجود الآخر
والآخر أن يذكر صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة
وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروجه [1] السماع والتقليد دون الكشف والعيان
ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات ويتعسف وفي تأويل التذكر بإقرار النفوس أنواعاً من التعسفات ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات وربما يغلب ذلك عليه حتى ينظر إليها بعين الاستحقار ويعتقد فيها التهافت
ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل داراً فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار فيقول ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وترد إلى مواضعها فيقال له إنها في مواضعها وإنما الخلل في بصرك
فكذلك خلل البصيرة يجري مجراه وأطم منه وأعظم إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس وعمى الفارس أضر من عمى الفرس ولمشابهة بصيرة الباطن لبصيرة الظاهر قال الله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى وقال تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض الآية وسمي ضده عمى فقال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء بعضها كان بالبصر وبعضها كان بالبصيرة وسمي الكل رؤية
وبالجملة من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة لم يعلق به من الدين إلا قشوره وأمثلته دون لبابه وحقائقه
فهذه أقسام ما ينطلق اسم العقل عليها
بيان تفاوت النفوس في العقل
قد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق
والحق الصريح فيه أن يقال إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات
فإن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضاً استحالة كون الجسم في مكانين وكون الشيء الواحد قديماً حادثاً وكذا سائر النظائر وكل ما يدركه إدراكاً محققاً من غير شك وأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها أما القسم الرابع وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات فلا يخفى تفاوت الناس فيه بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد فيه وهذا التفاوت يكون تارة لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه
فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وإذا كبر وتم عقله قدر عليه وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفاً وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة وقدم من يساويه في العقل على ذلك [1] قوله يستروجه من الرواج أي يكون السماع والتقليد رائجا عنده فتأمل اه مصححه
اسم الکتاب : إحياء علوم الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 87