الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية
تقدم أن المناسبة هي ملاءمة الوصف للحكم بحيث يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة للعباد، أو دفع مفسدة عنهم، وهذه المصلحة أو دفع المفسدة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وذلك كما في الإسكار، فإنه وصف مناسب للتحريم، لأنه يزيل العقل، ودرء المفسدة متمحض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه بمنعه من تعاطي المسكرات.
فإذا ورد في الشرع حكم وفي محله وصف مناسب لذلك الحكم من غير أن يكون إثبات عليته له بنص أو إيماء، وكان في ترتب الحكم عليه مصلحة للعباد صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، فإنه يحصل للمجتهد الظن بأن هذا الوصف علة لذلك الحكم، وليس لديه طريق توصله إلى هذا الظن سوى مناسبة الوصف للحكم، فحينئذ يثبت أن المناسبة تدل على علية الوصف المناسب، وتقرير هذا يتوقف على أمرين:
الأول: أن الأحكام معللة بمصالح العباد[1]، أما كونها معللة بمصالح ومقاصد، فقد استدل عليه الآمدي بالإجماع والمعقول فقال: "أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا.
وأما المعقول، فهو أن الله حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه، إما أن يكون واجباً، أو لا يكون واجباً، فإن كان واجباً، فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجباً، ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود من فعله ظناً. [1] نهاية السول 3/58، ومنهاج العقول بأسفل نهاية السول 3/56.