بين احتمال الخاص للمجاز واحتماله للبيان إذا وجد الدليل، وبعد أن عرفنا المراد من حمل المطلق على المقيد لدى جمهور الأصوليين وبعض الحنفية، والأدلة التي تمسك بها كل فريق على وجهة نظره، ومعاضدة رأيه يحسن بنا أن نذكر السبب في هذا الاختلاف.
والحقيقة إن الخلاف في معنى حمل المطلق على المقيد يعود إلى أكثر من سبب، فهو من جهة يرجع إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في سبب الحمل ما هو؟ ومن جهة أخرى يعود إلى اختلاف الفريقين في المقصود من التعارض1
1 التعارض: يطلق على أحد معنيين، عام وخاص.
فالتعارض الخاص ما يكون بمعنى التناقض والتضاد، وهذا النوع لا يمكن لمسلم أن يقول بوجوده في الشريعة الإسلامية الصادرة عمن يعلم السر وأخفى، والمبلغة إلينا بواسطة المعصوم عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا قال فريق من العلماء بنفي التعارض في الشريعة وأنه لا يوجد بين أحكامها أي تناف أو تضاد.
انظر رأي هذا الفريق في شرح المحلى على جمع الجوامع 2/359، والإبهاج شرح المنهاج للسبكي 3/142-143، وإرشاد الفحول ص: 275، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص: 59-63.
وما ذهب إليه هذا الفريق من عدم وجود التعارص بين نصوص الشرع (حق) إذا حمل على المعنى الخاص للتعارض، كما سبق بيان ذلك.
ويطلق التعارض: بمعناه العام على مطلق وجود التنافي بين الدليلين كالذي يقع بين العام والخاص وبين المجمل والمبين، والمطلق والمقيد، وهذا النوع من التعارض لا يمكن لمانعي التعارض في الشريعة إنكاره، ونفيه عن نصوص الكتاب والسنة؛ لأن سببه ناشئ من جهة المجتهد نفسه لجهله بالتاريخ بين الدليلين وعدم اطلاعه على القرائن الحالية والمقالية المصاحبة لنزول الدليلين المتعارضين في الظاهر، وما قد يتضمنه النص من مصالح للعباد في دنياهم وآخرتهم لا يحيط بها إلا علام الغيوب.
على أن الجمع هنا ممكن بين من ينفي وجود التعارض بين نصوص الشريعة، وبين من يقول بوجود التعارض بمعناه العام فيها، وذلك بحمل كلام المجوزين على المعنى العام للتعارض، وحمل كلام المانعين على المعنى الخاص للتعارض، وهو جمع وجيه ومعقول، ويدل عليه استقراء أدلة الفرق المختلفة وعندئذ يصح لمثبتي التعارض بمعناه العام الاحتجاج بمفهوم الخطاب في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} حيث يدل على ثبوت الاختلاف القليل وأنه لا ينافي كونه من عند الله، ولا شك أن الاختلاف الواقع بين العام والخاص، والمطلق والمقيد اختلاف قليل، لأننا نتمكن من الجمع بين الدليلين والعمل بمقتضاهما.
ينظر في ذلك: نهاية السول للأسنوي 3/165، حيث يفند كلام المانعين من تعارض الأدلة القطعية وينقل عن الرازي جوازه فيها ثم يقول: (فدل ذلك على أن إطلاق المنع مردود) ، ومشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم 2/109-110، وشرح المحلى 2/357، وتنقيح الفصول ص: 417-418، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/63-66، ص: 109.