اسم الکتاب : مدرسة الحديث في مصر المؤلف : محمد رشاد خليفة الجزء : 1 صفحة : 4
والآثار، ولأنها لم تكتب كما كتب القرآن في العصر الأول، بل كان اعتماد الصحابة فيها على حفظ الصدور، ثم تداولها من الطوائف حديثة العهد بالإسلام -وفيهم الكثير ممن كاد للإسلام وأهله عن طريق الدس في السنة والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما وضع بعضًا من الأحاديث موضع الشك، وما جعل السنة في جملتها لا تحظى بالإجماع الذي حظي به القرآن الكريم، وأخيرًا لأن كل عناية بالسنة إنما هي في الواقع عناية بالقرآن؛ لأنها الشارحة له، والمبينة لما جاء فيه، فكل جهد يبذل في سبيل تنقيتها وتجليتها وتبويبها وتصنيفها، وتقديمها إلى الدارسين والعاملين في وضوح لا لبس معه هو جهد مبذول في الحقيقة للعناية بكتاب الله عز وجل.
من أجل هذا، ولإبراز دور مصر في خدمة السنة، وتقديرًا لجهود العلماء فيها على مدى الأجيال وتعاقب السنين استنهاضًا للهمم وشحذا للملكات رأيت أن أوجه عنايتي إلى دراسة السنة في مصر، ووقع اختياري على تلك الفترة التي حظيت دراستها فيما بنصيب كبير، وكان علماؤها الأعلام في مركز الصدارة لعلماء المسلمين في كل أنحاء الدنيا، لعل ذلك يكون حافزًا على دراسة السنة في كل بلد دخله الإسلام، وباعثًا على جعل دراستي هذه بداية لسلسلة من الدراسات يقوم بها المتخصصون في السنة في مسارها عبر القرون منذ عهد النبوة إلى وقتنا الحاضر.
ولعل ذلك أيضًا يكون دافعًا لأبناء هذا البلد العريق أن يصلوا حاضرهم بماضيهم في العناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينهضوا للدفاع عنه، ويعملوا على بعث الكنوز المدفونة والذخائر الموروثة منه بعد رقود طال أمده.
إن مصر التي احتضنت الإسلام وسعدت به، واستمتعت منه بدفء الإيمان وحرارة اليقين، فانتصرت به على أعدائها في الداخل والخارج ليسعدها اليوم أن تعاود الكرة من جديد، وأن تتحمس لإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي إحيائها لها حياة، وفي التشبث بها اعتصام بحبل الله القوي وشرعه القويم.
إلى هذه الغاية النبيلة نرمي من وراء هذه الدراسة، وإلى هذا الهدف العظيم نسعى بهذا البحث الذي نرجو أن يحقق الله به النفع لنا ولأمتنا في ديننا ودنيانا، وأن يجعله بداية لعديد من البحوث في السنة يقوم بها المتخصصون فيها، وغرسًا كريمًا نافعًا يؤتي ثماره الطيبة في المستقبل القريب بإذن الله، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد عرضت في هذا البحث بعض المجهودات التي بذلها سلفنا الصالح، وهي مجهودات نعتز بها، لما فيها من جهد طويل متتابع في خدمة السنة الغراء، وتوجيه نفوس القارئين إليها، وشغل أفكارهم بها، عسى أن أكون ممن شملهم وعد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من دعا إلى
وما زال الجيش الإسلامي يواصل الفتوح من بلدة إلى أخرى، حتى تم الفتح لمصر عام عشرين، وانساح الصحابة والتابعون في أنحاء البلاد طولًا وعرضًا، ينشرون دين الله، ويبلغون رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذ كثير من أهل البلاد يقبلون على الفاتحين الأولين ويؤثرونهم بالحب، بعد أن عرفوا سماحة الإسلام وعدالته، وظهر لهم الفارق الكبير بين ما كانوا عليه أيام حكم الرومان من غطرسة وظلم واستبداد، وما لمسوه في هؤلاء الفاتحين من عدالة ورأفة ورفق وإحسان فدخل في الإسلام كثير من أهل البلاد، وبدءوا يطلبون ما لديهم من معارف الإسلام وعلومه الرفيعة وكانت مادة الصحابة في تعليم هؤلاء أصول الدين ما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كان الصحابة ينشرون دين الله ويبلغون عن رسوله، ودخل كثير من أهل البلاد في الإسلام فتعلموا على يد الصحابة والتابعين أحكام الدين وأصول العلم، فحفظوا القرآن، ورووا السنة وتفقهوا في الدين.
وكان من أكثر الصحابة رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد امتاز على غيره من سائر الصحابة بأنه كان يكتب ما يسمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يكتبون.
خرج عبد الله بن عمرو بن العاص إلى مصر عندما ولاه إياه معاوية، وبقي بها مقيمًا بعد وفاة والده، وكان يحج ويعتمر ثم يعود إليها، حتى توفي بها في بعض الأقوال.
ولم يكن عبد الله بن عمرو وحده الذي يكثر من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتصدى لتعليم الناس في مصر، فقد كان معه كثير من الصحابة يؤدون نفس المهمة ويقومون بهذا الدور.
كان هناك عقبة بن عامر الجهني، كما كان خارجة بن حذاقة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، ومحمية بن جزء، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو بصرة الغفاري، وأبو سعد الخير ومعاذ بن أنس الجهني، وعبد الله بن أنيس، وعبادة بن الصامت وكثير غير هؤلاء ممن سنذكرهم في أول فصول هذا الكتاب.
تخرج على يد هؤلاء الصحابة الكثير من التابعين، منهم أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني مفتي أهل مصر، ويزيد بن أبي حبيب، وعبد العزيز بن مروان، وعمار بن سعد التجيبي، ثم الحارث بن يعقوب الأنصاري -والد الفقيه عمر بن الحارث- وعطاء بن دينار، ثم جعفر بن ربيعة الكندي، وغير هؤلاء كثير.
اسم الکتاب : مدرسة الحديث في مصر المؤلف : محمد رشاد خليفة الجزء : 1 صفحة : 4