الشافعيِّ كالبيهقيِّ، مع أن البيهقيَّ له اجتهادٌ في كثير من المسائل، واجتهادُ الدارقطنيِّ أقوى منه، فإنه كان أعلمَ وأفقَهَ منه» (1) .
وكان للدارقطنيِّ أيضًا معرفةٌ باللغة والنَّحو والأدب والشِّعر؛ فقد روى الخطيبُ البغداديُّ عن الأزهريِّ: أن أبا الحسن لما دخل مِصْرَ كان بها شيخٌ عَلَوِيٌّ من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقالُ له: مُسَلَّم بن عُبَيدالله، وكان عنده كتابُ "النَّسَب" عن الخَضِر بن داود، عن الزُّبَير ابن بَكَّار، وكان مُسَلَّمٌ أحدَ الموصوفينَ بالفَصاحة المطبوعينَ على العربيَّة، فسأل الناسُ أبا الحسن أن يقرأَ عليه كتاب "النَّسَب"، ورغبوا في سماعه بقراءته، فأجابهم إلى ذلك، واجتَمَع في المجلس مَنْ كان بمِصْرَ من أهل العلم والأدب والفَضْل، فحَرَصُوا على أن يحفظوا على أبي الحسن لَحْنةً، أو يَظْفَروا منه بسَقْطَة، فلم يقدروا على ذلك حتَّى جعل مُسَلَّمٌ يَعْجَبُ ويقول له: وعربيَّةً أيضًا (2) ؟!
ولم يكتَفِ الدارقطنيُّ بالقراءة على علماء بغداد، بل حملته رغبتُه الشَّديدةُ في طلب العلم وتحصيله على الرِّحلة والسَّفَر، قاصداً علماء عصره في مدن العراق المختَلِفَة وغيرها من البلدان والأمصار.
فمن مدن العراق التي ارتحل إليها: البصرة، وذلك في وقت مُبكِّر من عمره، في حدود سنة عشرينَ وثلاثِ مئة (3) ، وله حينها أربعةَ عشرَ عامًا.
(1) "مجموع الفتاوى" (20/41) .
(2) "تاريخ بغداد" (12/35) . وسيأتي ذكرٌ لمسَلَّمٍ هذا في النص رقم (468 و469) .
(3) نقله الذهبيُّ في "الميزان" (3/572) .