responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف : القاري، الملا على    الجزء : 1  صفحة : 55
هَذَا الْعُدُولِ يَعْلَمُ بُلُوغَ بَلَاغَتِهِ إِلَى أَعْلَى الْغَايَاتِ، وَأَعْلَى النِّهَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ حَذْفُ الْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى حَذْفُ الصَّوْمِ، وَفَى أُخْرَى الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَفِي أُخْرَى عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تَخَالُفَ لِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ ذُهُولًا، أَوْ نِسْيَانًا كَذَا قِيلَ، أَوْ يُقَالُ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ، فَحَذَفَ الْحَجَّ لِأَنَّ وُجُوبَهُ نَادِرٌ، وَفِي الْعُمْرِ مَرَّةً، وَحَذَفَ الصَّوْمَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهُمَا عُمْدَةُ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرُ الطَّاعَةِ، وَالِانْقِيَادِ، وَالْعِبَادَةِ لَا اسْتِيفَاءَ أَفْرَادِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ هِيَ مُعْظَمَ أَرْكَانِهَا فَالْمُرَادُ بِذِكْرِ بَعْضِهَا مَثَلًا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَقِيَّتِهَا، وَلِذَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ فَيُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ اللَّفْظِيُّ عَلَى التَّحْدِيثِ الْمَعْنَوِيِّ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَرْكَانِ ظَاهِرًا تَبِينُ أَحْكَامُهُ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَبَاطِنًا مِنْ حَقَائِقَ، وَأَسْرَارٍ ذَكَرَهَا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ الْأُمَنَاءُ لِأَسْرَارِ الْغُيُوبِ، فَنَحْنُ نَذْكُرُ نُبْذَةً مِنْهَا. أَمَّا التَّوْحِيدُ، فَهُوَ ظُهُورُ فَنَاءِ الْخَلْقِ بِتَشَعْشُعِ أَنْوَارِ الْحَقِّ، وَلَهُ مَرَاتِبُ كَمَا ذَكَرَهُ ذَوُو الْمَنَاقِبِ.
الْأُولَى: التَّوْحِيدُ النَّظَرِيُّ إِنْ عُلِمَ بِالِاسْتِدْلَالِ، أَوِ التَّقْلِيدِيُّ إِنِ اعْتُقِدَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَسَلِمَ الْقَلْبُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْحَيْرَةِ، وَالرَّيْبِ، هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ مُتَفَرِّدٌ بِوَصْفِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَوَحِّدٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ يَحْقِنُ الدِّمَاءَ، وَالْأَمْوَالَ، وَيَتَخَلَّصُ مِنَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ فِي الْأَحْوَالِ.
الثَّانِيَةُ: التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ بِخُرُوجِهِ مِنْ غِشَاوَةِ صِفَاتِهِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ سِجْنِ ظُلُمَاتِ ذَاتِهِ، وَانْسِلَاخِهِ عَنْ لِبَاسِ الِاخْتِيَارِ حَيْرَانَ فِي أَنْوَارِ عَظَمَةِ الْجَبَّارِ، وَلْهَانَ تَحْتَ سُبُحَاتِ سَطَوَاتِ الْأَنْوَارِ، فَيَعْرِفُ أَنَّ الْمُوجِدَ الْمُحَقِّقَ، وَالْمُؤَثِّرَ الْمُطْلَقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلَّ ذَاتِ فَرْعٍ مِنْ نُورِ ذَاتِهِ، وَكُلَّ صِفَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَقُدْرَةٍ، وَإِرَادَةٍ، وَسَمْعٍ، وَبَصَرٍ عَكْسٌ مِنْ أَنْوَارِ صِفَاتِهِ، وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ، وَمَنْشَؤُهُ نُورُ الْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ دُونُ الْمَرْتَبَةِ الْحَالِيَّةِ، لَكِنَّ مِزَاجَهُ مِنْ تَسْنِيمِ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفِي مِنَ الظُّلْمَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَيَرْتَفِعُ بَعْضٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ.
الثَّالِثَةُ: التَّوْحِيدُ الْحَالِّيُّ، وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ التَّوْحِيدَ وَصْفًا لَازِمًا لِذَاتِ الْمُوَحَّدِ بِتَلَاشِي ظُلُمَاتِ رُسُومِ وُجُودِ الْغَيْرِ إِلَّا قَلِيلًا فِي غَلَبَةِ إِشْرَاقِ نُورِ التَّوْحِيدِ، وَاسْتَنَارُ نُورِ حَالِهِ فِي نُورِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ كَاسْتِتَارِ نُورِ الْكَوَاكِبِ فِي نُورِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا اسْتَنَارَ الصُّبْحُ أَدْرَجَ ضَوْءَ نُورِ الْكَوَاكِبِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِ وُجُودِ الْوَاحِدِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ شُهُودِهِ إِلَّا ذَاتُ الْوَاحِدِ، وَيَرَى التَّوْحِيدَ صِفَةَ الْوَاحِدِ لَا صِفَتَهُ بَلْ لَا يَرَى ذَلِكَ، قَالَ الْجُنَيْدُ: التَّوْحِيدُ مَعْنًى يَضْمَحِلُّ فِيهِ الرُّسُومُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْعُلُومُ، وَيَكُونُ اللَّهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ.
الرَّابِعَةُ: التَّوْحِيدُ الْإِلَهِيُّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الذَّاتِ، وَالْأَحَدِيَّةِ فِي الصِّفَاتِ، كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، وَالْآنَ كَمَا كَانَ. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَلَمْ يَقُلْ يَهْلِكُ؛ لِأَنَّ عِزَّةَ وَحْدَانِيَّتِهِ لَمْ تَدَعْ لِغَيْرِهِ وُجُودًا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْشَدَ الْعَارِفُ الْأَنْصَارِيُّ لِنَفْسِهِ شِعْرًا:
مَا وَحَدَّ الْوَاحِدُ مِنْ وَاحِدٍ ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ ... عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قِيلَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِعْرَاجَانِ: مِعْرَاجٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَمَحَلِّ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَمِعْرَاجٌ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِلَى الْغَيْبِ، ثُمَّ مِنَ الْغَيْبِ إِلَى غَيْبِ الْغَيْبِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ إِلَى وَطَنِهِ أَتْحَفَ أَصْحَابَهُ، وَإِنَّ تُحْفَةَ أُمَّتِكَ الصَّلَاةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْمِعْرَاجَيْنِ الْجُسْمَانِيِّ بِالْآدَابِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالرُّوحَانِيِّ بِالْأَذْكَارِ، وَالْأَحْوَالِ. وَلِهَذَا وَرَدَ: الصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَصَوْمُ الشَّرِيعَةِ مَنَافِعُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا التَّشَبُّهُ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى لَكَفَى بِهِ فَضْلًا، وَصَوْمُ الطَّرِيقَةِ، فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْوَانِ، وَالْإِفْطَارِ بِمُشَاهَدَةِ الرَّحْمَنِ.
صُمْتُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمَّا تَجَلَّى كَانَ لِي شَاغِلٌ عَنِ الْإِفْطَارِ

اسم الکتاب : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف : القاري، الملا على    الجزء : 1  صفحة : 55
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست