اسم الکتاب : مباحث في علوم القرآن المؤلف : صبحي الصالح الجزء : 1 صفحة : 55
البشر في هذه الحالات من استيلاء الحزن على قلبه، واستبداد اليأس بنفسه، والله لم ينهه عن الحزن والحسرات وبخع النفس وضيق الصدر -كما رأينا- إلا لأنه بشر مثل سائر البشر، في طبيعته استعداد لجميع هذه الانفعالات النفسية، وقد انتبه إلى هذا المعنى السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [1] فقال: "والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنته تعالى في الرسل والأمم، أو هي تذكير بهذه السنة وما تتضمنه من حسن الأسوة إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى" ثم زاد هذه الفكرة وضوحا بقوله: "ولولا أن دفع الأسى بالأسى من مقتضى الطبع البشري لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل، فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتيج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم، من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم"[2].
والصورة الثانية لتجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم هي -كما ذكرنا- تيسير حفظ القرآن عليه. ومن العلماء من يرى أن "تثبيت فؤاده" المذكور في آية الفرقان السابقة لا يراد منه إلا جمع القرآن حفظا في قلبه "فإنه عليه الصلاة والسلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ففرق عليه لييسر عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظه الجميع إذا نزل جملة"[3]. وقد أراد ابن فورك[4] أن يزيد هذا الأمر تفصيلا وبيانًا [1] سورة الأنعام 34. [2] تفسير المنار 7/ 377-378. [3] البرهان 1/ 231. [4] ابن فورك "بالفاء المضمومة والواو الساكنة والراء المفتوحة والكاف" هو محمد بن الحسن بن فورك، ويكنى أبا بكر. من المتكلمين والأصوليين المشهورين، له في معاني القرآن وأصول الفقه أكثر من مائة كتاب. توفي سنة 604 انظر إنباه الرواة 3/ 110 وشذرات الذهب 3/ 181-182 وابن خلكان 1/ 482.
اسم الکتاب : مباحث في علوم القرآن المؤلف : صبحي الصالح الجزء : 1 صفحة : 55