اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 149
أسلوب القصص في القرآن:
88- قد ذكرنا في القول الأسبق ما يختص به أسلوب القرآن من صور بيانية في ألفاظه، فكل لفظ يعطي صورة بيانية يناسب المقام الذي ذكر فيه، ويتجمع من الأسلوب صورة بيانية تكون الصورة اللفظية أجزاء فيها، وإن كان لها صفة الاستقلال، ومن المجموع تتكون صور تصوّر المعاني، ويكون لها أطياف في اجتماعها وانفرادها.
وذلك ثابت في أسلوب القصص، كما هو ثابت في كل أساليب القرآن الكريم من غير تخصيص فيها، بل كلها درجة واحدة يعجز البشر عن أن يصلوا إليها، فكل لفظ له إشعاع نوراني يشع منه، وكل جملة ينبثق منها النور الإلهي الذي تنطفئ بجواره كل الأنوار.
ومع هذا فالقصص القرآني باعتباره قصصًا، فيه إخبار عن أمم ووقائع وأنبياء يجادلون أممهم وأشخاص يعاندونهم، وأن القصص يمتاز مع الصور البيانية التي تنبعث من الكلام مجردًا، يصور أخرى تصور الأشخاص والوقائع والمشاهد، فإذا ذكرت حال شخص صور تصويرًا واضحًا كأنك تراه وتشاهده، والعبارات تصور حاله من خوف، أو حنان، أو انزعاج أو جحود، وكأن المعاني صور واضحة في الشخص المتحدث عنه، ولو أن مصورًا متحركًا يصور الشخص في مشهد من مشاهد الذعر، ما كان أكثر تصويرًا من الألفاظ القرآني والأساليب في تصويرها.
ولنذكر في ذلك بعض ما تلونا من قبل، لنعيد تلاوة حا أم موسى وقد ولدت ولدها، وهي تعلم أن فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وتضطرها الفطرة الملهمة التي كانت بمثابة وحي أو هي وحي لها أن تلقي ولدها في اليم؛ لأنه خير لها أن يلقى لقدر الله تعالى وقضائه، من أن يذبح بين يديها، وهذا ما نعيد تلاوته، وما أطيب القرآن في إعادة تلاوته: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 7-12] .
إن القصة ترينا صورة أم مضطربة منزعجة خائفة لما أثقلت ألقت حملها، فإذا أثقال جديدة، إنما تريد نجاته، فيعلوها الاضطراب والخوف والفزع، وإذ الإلهام يجيئها بإلقاه باليم مع إثلاج قلبها بألَّا تخاف وألَّا تحزن، ومَنَّ الله تعالى عليها بالاطمئنان بأنه سيعود إليهًا، وهكذا يكون الاطمئنان في موطن الخوف، والقرار في موطن الاضطراب، والسكون في موطن الهلع، يغيب عنها فلذة كبدها فيفرغ قلبها، ويغلب الفزع على الاطمئنان وهي تغالب حال الفزع بحال الاطمئنان إلى أن وعد الله تعالى بالاطمئنان، ويصطرع الأمران في نفسها، يغلب الإلهام فتطمئن، ويغلب الفزع القلبي
اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 149