وان شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو:
ان الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورته الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة ان تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وجدت بنفسها بلا علة لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتي الميزان، ولو وجد الترجح لكان في العدم. فباتفاق العقلاء لابد لها من علة مرجِّحة.. ومن المحال ان تكون العلة أسبابا طبيعية؛ اذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهاية علم وكمال شعور لايمكن تصورهما في تلك الأسباب، التي يخادعون أنفسهم بها. مع انها أسباب بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركها مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا اولوية لبعضها. فكيف تجري في مجرى معين، وتتحرك على محرك محدود، وكيف يترجح بعض وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينة العجيبة المنتظمة التي حيرت العقول في دقائق حكَمها، بل انما تقنع نفسُك وتطمئن بتولدها منها ان اعطيت لكل ذرّة شعور "افلاطون" [1] وحكمة "جالينوس" 2 واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرة عمومية. وما هذه الاّ سفسطة يخجل منها السوفسطائيّ. مع أن أس الأسباب المادية وجود القوة الجاذبة والقوة الدافعة معا في جزء لايتجزأ والجوهر الفرد، وان هذا كاجتماع الضدين.
نعم، قانون الجاذبة والدافعة وأمثالهما اسماء لقوانين عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولة بشرط ان لاتنتقل من القاعدية الى الطبيعية، وان لاتخرج من الذهنية الى الخارجية، وان لاتتحول من الاعتبارية الى الحقيقية، وان لا تترقى من الآلتية الى المؤثرية.
فاذا تفهمت ما في هذا المثال ورأيت عظمته مع صغره ووسعته مع ضيقه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات تر وضوح دليل العناية وظهوره بمقدار درجة وسعة [1] 427 - 347 ق. م) من مشاهير فلاسفة اليونان، تلميذ سقراط ومعلم ارسطو. من مؤلفاته (الجمهورية) و (المحاورات) .
(130 - 200م) طبيب وكاتب يوناني، ولد في برجامون وعمل جراحاً لمدرسة المصارعين بها بعد ان اتم دراسته في بلاد اليونان وآسيا الصغرى والاسكندرية ثم اقام بروما حيث ذاع صيته وينسب اليه خمسمائة مؤلف اغلبها في الطب والفلسفة.