اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 80
إن البقر يذبح قرباناً كما كانت عادة بني إسرائيل.. وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل.
وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء.. إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله، التي لا يعرف البشر كيف تعمل. فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: «كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
.. كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعاً ولا تدرون كيف وقع وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر.
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس. ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير.. كيف؟ .. هذا ما لا أحد يدريه. وما لا يمكن لأحد إدراكه.. إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها:
«وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
..
وأخيراً نجيء إلى جمال الأداء وتناسقه مع السياق..
هذه قصة قصيرة نبدؤها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا، وفي هذا اختبار لمدى الطاعة والاستجابة والتسليم.
ثم تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه، فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى وربه على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون منه أن يسأل ربه، فكان يسأله، ثم يعود إليهم بالجواب.. ولكن سياق القصة لا يقول: إنه سأل ربه ولا إن ربه أجابه.. إن هذا السكوت هو اللائق بعظمة الله، التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل! ثم تنتهي إلى المباغتة في الخاتمة- كما بوغت بها بنو إسرائيل- انتفاض الميت مبعوثا ناطقاً، على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة، ليس فيها من حياة ولا مادة حياة! ومن ثم يلتقي جمال الأداء التعبيري بحكمة السياق الموضوعية في قصة قصيرة من القصص القرآني الجميل [1] .
74- وتعقيباً على هذا المشهد الأخير من القصة، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد والأحداث والعبر والعظات، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب:
«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى.. هي حجارة لهم بها سابق عهد. فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عيناً، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقاً! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى.. قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة.. ومن ثم هذا التهديد:
«وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء [1] يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 80