اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 79
وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء: «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» .. وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة المطلوبة فهذا هو الشائع في طباع الناس: أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا، وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا.
70- ولقد كان فيما تلكأوا كفاية، ولكنهم يمضون في طريقهم، يعقدون الأمور، ويشددون على أنفسهم، فيشدد الله عليهم. لقد عادوا مرة أخرى يسألون عن الماهية:
«قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» ..
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:
«إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» ..
وكأنما استشعروا لجاجتهم هذه المرة. فهم يقولون:
«وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» ..
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيداً، وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصراً وضيقاً، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة، كانوا في سعة منها وفي غنى عنها:
71- «قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها» ..
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر. صفراء فاقع لونها فارهة فحسب. بل لم يعد بد أن تكون- مع هذا- بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة.
هنا فقط.. وبعد أن تعقد الأمر، وتضاعفت الشروط، وضاق مجال الاختيار:
«قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» ..
الآن! كأنما كان كل ما مضى ليس حقاً. أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة! «فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» !! 72- عندئذ- وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف- كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:
«وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى، وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة. جانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة. وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة.. لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ثم جعل كل فريق 73- يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه. ولم يكن هناك شاهد فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح.. وهكذا كان، فعادت إليه الحياة، ليخبر بنفسه عن قاتله، وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين.
ولكن. فيم كانت هذه الوسيلة، والله قادر على أن يحي الموتى بلا وسيلة؟ ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث؟
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 79